ليس من الافتعال ولا من المبالغة الربطُ بين أمرين: التدخّل الاحتلاليّ في سوريّة وتلفيق تهمة التجسّس للفنّان زياد عيتاني، ومن ثمّ اعتقاله وتعذيبه.

صحيح أنّ المؤسّسات الرسميّة اللبنانيّة على أنواعها لم تكن في أيّ وقت سابق نموذجاً للتقليد. إلّا أنّها لم تنحطّ في أيّ وقت سابق هذا الانحطاطَ الذي ترزح تحته اليوم.

أحد أبرز أسباب التردّي كامن في الحالة الحربيّة التي افتتحها «حزب الله» عبر تدخّله العدوانيّ في سوريّة. فالحرب في وسعها أن تعطّل عمل المؤسّسات وأن تتطاول على حقوق الأفراد المكفولة دستوريّاً في أعرق الديموقراطيّات البرلمانيّة. هذا ما تكثر البراهين عليه في الولايات المتّحدة وبريطانيا وفرنسا، إبّان الحرب العالميّة الثانية وحروب الجزائر والهند الصينيّة وأفغانستان والعراق وسواها. فكيف في وضع بلد هشّ الديموقراطيّة كلبنان؟

المناخ التعبويّ الذي تخلقه قضايا المصير المزعوم وتساقط القتلى وكثرة «الأسرار الحربيّة»... كلّها تسخّف الحقوق وتستخفّ بالحرّيّات وتبرّر التجاوز على المؤسّسات كما على شفافيّة الأداء. وهي تجعل الأمن قدس الأقداس، ورجال الأمن الذين يعملون فــــي العــتم حرّاس الهيكل. تتبدّى الحالة الحربيّة هذه، في سياقها اللبنانيّ الراهن، مدعاةً لكارثة أخرى: استعراض عضلات الطوائف وتغوّلها على المؤسّسات والحرّيّات وعلى نـــــزاهة اشتغالها. هنا، تندرج رشوة طوائف لانتزاع موافقتها على ما تفعله الطائفة الأقوى والأكثر مبادرة. يندرج أيضاً بحث بعض الطوائف عن حصص صغرى في القرار تساكن الحصّة الكبرى التي هي المشاركة في الحرب وانتزاع «حقّ» شنّ الحروب.

إلى ذلك، فللحرب في سوريّة خلفيّة حربيّة ونضاليّة لم تكن أقلّ عدواناً على المؤسّسات والحقوق: إنّها المسار الممتدّ منذ 2000، سنة الانسحاب الإسرائيليّ الأحاديّ الجانب من الجنوب. مــــذّاك والمقاومة - وهي اسم الغنج والدلع للنفوذين الإيرانيّ والسوريّ - تعرّض البلد لأن يكون بلد استثناء. وبلدان الاستثناء كلّ شيء جائز فيها لأنّها، بالضبط، استثناء. أمّا صرخة الحرب الراهنة ضدّ تطبيع الحياة وعاديّتها فليست سوى مطاردة «العملاء» ومكافحة التطبيع، أي هذه السوق الزاخرة بخــليط التفاهة والمكارثيّة والوشاية والغرضيّات الوضيعة.

من يرِدْ حقوقاً وحرّيّات وانتظاماً في عمل المؤسّسات، فعليه أن يسعى إلى الخروج من حالات الاستثناء الحربيّ. ومن يرِدْ الحروب، هنا أو هناك، فعليه ألّا يتوقّع حقوقاً وحرّيّات أكبر أو اشتغالاً مؤسّسيّاً أنظم. حمل البطيختين في يد واحدة مستحيل. إنّه تبرير لواقع أخرق، يتكرّر فيه، مرّة بعد مرّة، تلفيق التهم لزياد عيتاني ما، فيما يعلو إلى السماء قرع طبول الحرب والتلويح بالمصير المقدّس والمُدمّى.