ليس طبيعياً ما يحصل الآن في حمأة التحضير للانتخابات النيابية، فالجميع ذاهبون إليها، ولكن القلّة منهم واثقة بالفوز بما تطمح إليه من مقاعد نيابية، فيما الأكثرية تُقدم عليها ويمتلكها خوف من الفشل، وفي أحسن الحالات فوز بعددٍ هزيل من المقاعد لا يليق لا بـ»المقام» ولا بالموقع الموعود في الحياة السياسية مستقبلاً.

ترغيبٌ لناخبين هنا وترهيبٌ لآخرين هناك بدأ يشهدهما بعض الدوائر الانتخابية، ولا سيّما منها تلك التي قد تشهد ما يسمّيه البعض «أمّ المعارك»، ومن يمارس هذين الترغيب والترهيب إنّما يمارس «صرف نفوذ» خلافاً للقانون وبطريقة وقحة، أين منها ممارسة الرشى أو خطر اللعب على أوتار الطائفية والمذهبية التي من شأنها أن تفسّخ أواصر الوحدة الوطنية.

إلّا أنه لم يعلِن أيّ فريق سياسي بعد أيّ موقف يكرّر فيه كالعادة قبل كلّ موسم انتخابي «المعزوفة المعروفة» القائلة بإجراء «انتخابات حرّة ونزيهة» تقف فيها الدولة «على الحياد»، ولكن عن أيّ حياد يتحدّثون؟...

المرشحون لهذه الانتخابات المقرّرة في 6 أيار المقبل ينتمون في غالبيتهم الى قوى سياسية مشاركة في السلطة حالياً، سواء في مجلس النواب الحالي، أو في الحكومة، ما يطرح سؤالاً كبيراً حول مدى النزاهة التي ستتوافر في الانتخابات المقبلة طالما إنّ الذين سيخوضون غمارها مشاركون، أو ينتمون الى القوى المشاركة في السلطة التي ستشرف على العمليات الانتخابية، إذ إنّهم يملكون النفوذ الذي في إمكانهم استخدامه ترغيباً أو ترهيباً للناخبين لكي ينتخبوهم ليفوزوا بما يَطمحون إليه من مقاعد نيابية في المجلس الجديد.

يكشف المشهد الانتخابي من الآن، حسب متابعين للتحضيرات الجارية للاستحقاق النيابي، أنّ القوى التي تستعدّ لخوض الانتخابات تنقسم الى ثلاث فئات:

الفئة الأولى: هي فئة الأقوياء الذين لديهم ثقة كبيرة في أنّهم سيفوزون في هذه الانتخابات انطلاقاً من ثقتهم بالقواعد الشعبية الناخبة والمؤيّدة لهم في الدوائر التي سيخوضون الانتخابات فيها، وليس لديهم أيّ هواجس أو مخاوف من فشل أو مِن ضمور محتمل في حجمهم التمثيلي الذي يتمتعون به الآن في المجلس الحالي، بل إنّهم يتوقعون أن بكبر هذا الحجم في المجلس المقبل إمّا عبر الفوز بمقاعد إضافية، أو من خلال فوز حلفاء لهم بفِعل النظام الانتخابي النسبي المعتمد هذه المرّة والذي يعوّل عليه أن يوسّع دائرة التمثيل الشعبي وشموليته في الندوة النيابية.

ـ الفئة الثانية، هي فئة الذين يدّعون القوّة أو الذين كانت لديهم القوّة كلها سابقاً، ولكنّها تشتّتت الآن بين مجموعة منافسين داخل البيئة الواحدة، ما جعلهم غيرَ قادرين على الاستثمار انتخابياً فيها، أو غيرَ واثقين من انّ هذه القوة، أو ما تبَقّى منها، ستُمكّنهم من الفوز الموعود، ولذلك يحاولون تعويضَ ناقص القوّة، أو ما فقِد منها بممارسة أساليب الترغيب والترهيب على الناخبين، مستغِلّين النفوذ والسلطة التي يتمتّعون بها، بل إنّهم بدأوا يكلّفون أجهزة هذه المهمّة في عملية خرقٍ فاضحة للقوانين التي تحظر على أيّ جهاز أمني أو عسكري التدخّل في الانتخابات انتخاباً أو ممارسة أيّ سلطة أو ضغوط أو تهديدات على الناخبين تحت طائلة الملاحقة القضائية والصرف من الخدمة. وقد بدأت هذه الضغوط والتهديدات تُمارَس على رؤساء بلديات ومخاتير وجمعيات وعائلات وغيرها في عددٍ من الدوائر، بحيث يُطلب من هؤلاء تغيير خياراتهم الانتخابية والتخلّي عن تأييد مرجعيات يدينون لها بالولاء منذ عشرات السنين، والاقتراع يوم الانتخاب لمصلحة «مرشحي السلطة»، إذا جاز التعبير.

على أنّ هذه الفئة من القوى السياسية التي ستخوض الانتخابات تضمّ مجموعة من أصحاب المصالح السياسية وغير السياسية الذين تلاقوا على التحالف الذي تفرضه عليهم طبيعة هذه المصالح التي نشأت بينهم خلال العامين المنصرمين ويتوقّف مصيرها على طبيعة السلطة التي ستنبثق من الانتخابات المقبلة سواء على مستوى الحكومة الجديدة رئيساً وأعضاء أو على مستوى الاستحقاق الرئاسي المقبل وطموح البعض داخل هذه الفئة إلى خوض انتخابات رئاسة الجمهورية عام 2022.

ولكنّ بعض المؤشرات الراهنة يدلّ، حسب المتابعين للاستحقاق النيابي، إلى أنّ الانتخابات المقبلة قد لا تكون بالنزاهة والشفافية والحرّية التي يتصوّرها البعض، إذ كان يفترض أن تشرف عليها حكومة ليس بين وزرائها مرشّحون لهذه الانتخابات، في حين أنّ نظرةً إلى هذه الحكومة تُظهر أنّ 16 وزيراً فيها مرشّحون للانتخابات وموزّعون على الدوائر الانتخابية الخمس عشرة التي حدّدها قانون الانتخاب الجديد المعتمد على النظام الانتخابي النسبي للمرّة الأولى منذ الاستقلال. ما يَطرح السؤال كيف أنّ هذه الانتخابات ستكون نزيهة وتقف فيها الدولة على الحياد فيما وزراء في الحكومة يستغلون مناصبَهم لاستمالة الناخبين في عملية صرفِ نفوذٍ «على عينك يا تاجر» وليس هناك «من يحاسب أو يحاسبون».

وقد بدأ يُسجّل في هذا المجال إقدامُ بعض هؤلاء الوزراء على رشوة ناخبين بخدمات (هي من حقّ المواطن بلا أيّ مقابل)، كانوا حجبوها في ما مضى عن أصحابها إلى «أيام الحشرة» التي يبدو أنّها استحقّت الآن في خضمّ التحضير للانتخابات التي سيخوضها المرشحون في كثير من الدوائر على قاعدة «عسكري دبِّر راسَك»، بسبب «الصوت التفضيلي» الذي يجعل الإنسان «يفرّ مِن أخيه وأمّه وأبيه»، وهذا «الصوت التفضيلي» يجري من الآن احتسابه وتفضيله على «الحاصل الانتخابي» للّوائح في هذه الدائرة أو تلك.

وبغَضّ النظر عمّا يمكن أن يلقاه هذا الفريق أو ذاك من دعمٍ مادّي أو معنوي في معركته الانتخابية، فإنّ تدخُّل السلطة في الانتخابات إذا حصَل سيكون سابقاً على أيّ نوع من أنواع هذا الدعم، لأنّ السلطة موجودة في كلّ التفاصيل الإدارية واللوجستية للعملية الانتخابية، أي في إمكانها أن ترجّح كفّة من تريد إذا شاءت استغلالَ سلطتِها، فيما المبدأ والقانون والدستور يلزِمها بالوقوف على مسافة واحدة من جميع المرشّحين واللوائح، بحيث تكون للجميع والحَكَمَ بين الجميع، وليس طرفاً ضدّ آخر، ولا ترجّح كفّة طرفٍ على كفّة طرفٍ آخر.

وثمّة فئة ثالثة من المرشّحين للانتخابات، وهم المستقلّون من القيادات والفعاليات السياسية ومِن جمعيات تطلِق على نفسها اسم «المجتمع المدني»، فهؤلاء يخوضون الانتخابات بعضُهم يتّكئ على تأييد شعبيّ يَخطى به في كلّ انتخابات كونه يُراكم خدماتٍ عامة لمؤيّديه وللمناطق التي ينتمي إليها على مرِّ السنين، والبعض الآخر يحاول اختراقَ اللوائح الأُخرى مستغلاً الفساد المستشريَ والذي تورّط ويتورّط فيه كثيرون داخل السلطة وخارجَها ويتوقع أن يحظى بتأييد الناخبين الساخطين على هذا الفساد والفاسدين، وعلى الحال التي وصَلت البلاد إليها.