لا يخفي المراقبون تقديرَهم لحجم الجهود المبذولة في بعض الماكينات الإنتخابية لتقديم برامج أحزابها. فالجميع يدرك أنّ مشكلات اللبنانيين لا تُحصى ولا تُعد في شكلها ومضمونها وهي عابرة للمناطق والقطاعات. لكن، ومقابل هذا الإعجاب تُطرح الأسئلة عن أهمية هذه البرامج في زمن التسويات السياسية في ظلّ تبنّيها لدى أهل السلطة والمعارضة في آن. وعليه ما هو الدافع الى هذه المعادلة؟
 

شدّت شاشات التلفزة في عطلة نهاية الأسبوع اللبنانيين اليها فاستمعوا بإمعان الى عدد من البرامج الإنتخابية التي أطلقتها أحزاب وتيارات سياسية بأشكال مختلفة مقدّمةً صورة رائعة عن حجم الجهود التي بُذلت لوضع هذه البرامج الشاملة لكل نواحي الحياة اليومية للبنانيين. وبقليل من التمييز والفوارق في الشكل لا في المضمون وَضعت هذه البرامج الأصابع على عدد من الجروح التي يعاني منها كل لبناني في أيّ منطقة والى أيّ فئة أو طائفة انتمى، وخصوصاً أولئك المنهمكون بتسيير امورهم اليومية والآنية بلا افق نحو المستقبل وذلك في ظلّ حجم الإستحقاقات المعيشية والإقتصادية والتربوية والصحّية والإجتماعية والإنمائية التي يواجهونها.

وعلى هذه الخلفيات، بقيت البرامج الإنتخابية من عدة الشغل على ابواب الإنتخابات النيابية المقبلة. وهي رغم الحاجة الى ابرازها لكسب اصوات الناخبين في مجتمع مثقّف ومتنوّر هناك مَن يعتقد أنها تحوّلت لزومَ ما لا يلزم في اوساط لبنانية واسعة أنهكتها الهموم المعيشية ووضعت العوائق امام أحلامها الى الحدود القصوى. ومن هنا برز النزاع قوياً بين مجموعات لبنانية مختلفة يمزّقها الشعور بالضعف امام حجم الإغراءات المعمول بها في لبنان، وهو ما أدّى الى تقسيم اللبنانيين الى فئات عدة ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

- الفئة الأولى تمتلك ما يكفي من المناعة للإنسياق وراء الإغراءات المطروحة في الاسواق الإنتخابية وهي ستنتخب وفق إقتناعها بمعزل عن الوعود الطنّانة والبراقة تواكبها محاولات مدّ الشعور بمكاسب السلطة ومظاهرها وما يمكن ان يجنيه مَن يندمج فيها أو ينساق خلفها.

- الفئة الثانية فقدت إيمانها وشعورها بكل أشكال البرامج في ضوء التجارب السابقة التي قادت الى الخروج عن كثير ممّا تضمّنته من الشعارات والمبادئ التي استُدرجوا اليها في مرحلة من المراحل، فانقلب قادتُها عليها وتجاوزوها الى مواقع أخرى كسباً للآني من الإنجازات.

- الفئة الثالثة نشأت وما زالت ترغب البقاءَ في موقع التبعية للطائفة او الزعيم، ايّاً كانت النتائج التي تحققت. فهذه الفئة مرتاحة حيث هي، لا يهزّها شعار او موقف وهي مطمئنة الى يومها وغدها ولا ترغب خوضَ أيّ مغامرة أيّاً كان حجمها.

ليس في هذا التصنيف ما يؤذي ايّاً من فئات الناخبين المدعوّين الى الإقتراع او التصويت في 6 أيار المقبل، ولا يؤذي شعورَ أيٍّ منهم على الإطلاق. فكل استطلاعات الرأي والإحصاءات التي أُجريت في الايام الأخيرة لم تغيّر شيئاً في التصنيف العمودي او الأفقي للناخبين، لا بل فقد عزّزت هذا الإعتقاد ورسّخته الى الحدود القصوى.

وما زاد في الطين بلة، باعتراف المراقبين، انّ قانون الانتخاب الجديد عزّز هذا الفرزَ القائم حالياً بين اللبنانيين الذين خرجوا للتو بشعور متناقض بين مَن يعتقد انّ انتهاءَ الفرز الذي كان قائماً بين 8 و14 آذار كان نعمة، وآخرين يعتقدون أنه نقمة وبلاء.

وهو ما ادّى الى معادلة سلبية جديدة وسط شعور الفئة الأولى بالإنتصار نتيجة فكفكة التفاهمات السابقة التي لم تُنتج حلاً، وشعور الفئات الثانية بالتهميش والخسارة بسبب سقوط كثير من المبادئ والثوابت التي انهارت تحت شعارات واهية تفتقد الى كثير من المنطق.

وامام هذه الفسيفساء الجديدة، بقيت الأنظار مشدودةً الى ما فرضه القانون الجديد من سباق بين أهل البيت الواحد في النزاع على «الصوت التفضيلي» ومعه حجم التفاهمات الجديدة لبناء اللوائح الإنتخابية والتي جاءت على قاعدة المصلحة الإنتخابية فنزعت من اللوائح التي شكلت حتى الآن روح التعاون بين اعضائها، وضاعت معها الأحلام التي بنيت على اساس اعتماد النسبية في القانون الجديد.

فكل تلك الوعود بما يمكن أن تقدّمَه النسبية تمّ تعطيلها عن سابق تصوّر وتصميم باعتماد «الصوت التفضيلي» الواحد المحصور بالقضاء، وفتح الباب امام شكل من اشكال اللوائح التي تستفزّ بجمع المتناقضات كثيراً من الناخبين الذين قد يُحجمون عن المشاركة في العملية الإنتخابية بدلاً من رفع نسبتها، وهو امر يتلمّسه المرشحون وترصده الماكينات الإنتخابية بدقة متناهية.

ويعترف مسؤولون في الماكينات الإنتخابية الموالية والمعارضة انّ كل هذه القراءة في مزاج الناخب اللبناني دقيقة واكثر من واقعية. لكنهم وفي الوقت عينه وجدوا انه يمكن استخدامها سلاحاً ذا حدين. فالفئة الأولى من احزاب السلطة التي تخوض الإنتخابات بأدوات الحكم ومغانمها، ترى انّ هذا الأمر سيقود الى اعادة القديم الى قدمه لفقدان البديل. فيما تراه الفئة الثانية المعارضة مناسبة لمحاكمة اهل السلطة وإعطاء الفريق الذي شاء أن يكون بديلاً منها الفرصة لإثبات الوجود سعياً الى ما يطمحون اليه من تغيير في النهج والأداء على كل المستويات.

وامام انشطار اللبنانيين على هذا النحو، تطرح المعادلة من جديد بين الفئة التي ركبت موجة التسويات السياسية منذ انهاء الشغور الرئاسي بالشكل الذي تمّ خريف العام الماضي وما يمكن أن تجنيه من الإنتخابات المقبلة ومَن اختار طريق المواجهة سعياً الى تكبير حجم المعارضة في المجلس النيابي لفتح باب المساءلة والتصحيح حيث ما يمكن ذلك.

وبناءً على ما تقدّم، يبدو للمراقبين انّ العملية الإنتخابية إذا اكتملت فصولها ستعطي مثالاً على فقدان النظام للآليات المؤدّية الى حكم الأكثرية في مواجهة الأقلية. وانّ القانون الجديد لن يأتي بمثل هذه التوقعات بمقدار ما يشي بأنّ التسويات هي الآلية الوحيدة التي يمكن أن تحكُم وتتحكّم باللبنانيين ليبقى البلد معلّقاً على رصيفها. فالبديل منها شلل في المؤسسات والسلطة معاً ونموّ مزيد من المعادلات السلبية التي تمزّق نسيجَ اللبنانيين ومعه كل البرامج الإنتخابية.