في وقت وضع "حزب الله" على رأس أهدافه الانتخابية تقليل إمكانية إحداث خرق في جدار التحالف الانتخابي بينه وبين حركة "أمل"، فقد أدرج رئيس الحكومة سعد الحريري أسلوب خوض تيار "المستقبل" للاستحقاق ضمن إطار الحصول أو عدم الحصول على ثقة الناس، في الدوائر التي يخوض السباق فيها، لتقرير مصير المشروع الذي يمثّله هذا التيار. الاستقطاب الانتخابي العام مرتبط الى حد كبير بهذين التحديدين لطبيعة الاستحقاق.

الاحتراز هنا ضروري: لا يمكن التعامل مع استحقاق، كالانتخابات النيابية المؤجلة منذ خمس سنوات، والتي بات يفصلنا عن موعدها المؤجل شهران فقط، كما لو كان استحقاقاً "غير مهم" أو "تحصيل حاصل" أو "لا يقدّم أو يؤخر" .. مثلما لا يمكن التعامل مع الاستحقاق، بمعزل عن نظرة نقدية للاحوال القائمة منذ سنوات او لقانون الانتخاب بحد ذاته، وبالتالي بمعزل عن وجود شروط محددة يجري ضمنها هذا الاستحقاق، وتحدّ من الانتظارات والتوقعات ومن السمة المفصلية للحدث، في نفس الوقت الذي تحاول سواء قوى ذات باع في الحكم أو قوى تريد الدخول لمعترك السياسة لاول مرة، الإيحاء بمصيريته.

الاستحقاق مهم. أولاً لأنها المرة الاولى التي تُدعى فيها الهيئات الناخبة لانتخابات تشريعية منذ تسع سنوات، ولأن نظامنا الدستوري لا يلحظ استفتاءات شعبية او انتخابات رئاسية، فليس من اقتراع عام الا بالانتخابات النيابية وتلك البلدية. ورغم كل التوقعات، ورغم رجحان التحليل الذي يقول بأن اكثرية المقاعد باتت سلفاً خارج المنافسة الفعلية، ومحسوم أمرها، الا انه فعلاً لا يمكن الوقوف على حقيقة الاتجاهات التي يمكن ان يُظهرها المجتمع اللبناني بعد كل هذا التأجيل لسماع صوته.

ثانياً لانها المرة الاولى التي يُعتمد فيها نظام التصويت النسبي، ومن دون المرور بأي من القوانين الانتقالية، القائمة على نظام التصويت المختلط، لكن ايضاً من دون اعتماد نظام نسبي ايجابي تجاه تحديث الحياة السياسية في اتجاه اعتماد نظام الاحزاب الانتخابية.

ثالثاً، لان الاستقطاب على اساس 8 و14 آذار تراجع الى حد كبير، لكنه لم يندثر تماماً، وهو يؤثر بدرجة متفاوتة بين الدوائر، ولان اي استقطاب على اساس معارضة وموالاة دونه عراقيل كثيرة، من ضمنه ان اكثر القوى الممثلة برلمانياً هي في الحكومة، ومعظم الحكومات على الطريقة اللبنانية اشبه ببرلمان مصغر، في حين ان النظام البرلماني هو الذي تنبثق فيه حكومة، يفترض، من الاكثرية البرلمانية، وتتشكل فيه الاقلية البرلمانية كمعارضة .. وليس هناك على ما يظهر من أفق للتأهل نحو اطار يفرز موالاة ومعارضة بعد الانتخابات، انما ستؤثر نتائج الانتخابات بشكل او بآخر على توزيع المقاعد والحقائب الوزارية في الحكومة المقبلة بعدها.

وفي المقابل، فهذه الانتخابات لا تتواجه فيها بشكل عميق، ومناظر، برامج انتخابية، الا على نحو جزئي وهجين. يكاد يكون هناك اجماع على "ستاتيكو" يصل ما قبل الانتخابات بما بعدها، ويسعى كل طرف الى زيادة سهمه السياسي في هذا الستاتيكو، وقد تراجع عشية الانتخابات الحديث ان يكن عن "تسونامي" فوز كاسح لاي فريق مزمن، او عن مطب إلغائي لاي فريق مزمن.

ايضاً، في مقابل حيوية "مدنية" ظهرت في الانتخابات البلدية، واستفادت من حيوية تظاهرات الحراك المطلبي في صيف 2015، ايام ازمة النفايات، لا يظهر ان طفرة المرشحين تحت يافطات "المجتمع المدني"، في هذا الاستحقاق، يمكنها ان تصنع تجربة مشهدية استقطابية مثل تجربة "بيروت مدينتي" في البلديات. والاغلب ان العدة الخطابية التي كانت تنفع في المنازلة البلدية لم تستصلح بالشكل الكافي لتقديمها في انتخابات تشريعية، ولا تحظى القضايا الاجتماعية التي تعني فئات الدخل المحدود باهتمام جدي ومحوري لدى المرشحين "المدنيين" بشكل مختلف عن مرشحي "المؤسسة الحاكمة"، او القوى ذات السمة الاهلية او صاحبة التمثيل البرلماني المزمن، ناهيك عن ابتعاد عدد كبير من هؤلاء المرشحين عن اي "وجعة رأس" متصلة بطرح المسائل المستعصية المقرونة بسلاح "حزب الله"، وعن غياب افق لديها لاعادة تفعيل ثنائية "موالاة ومعارضة" في لبنان.

في هذا الوقت، يبدأ العد العكسي لانجاز اللوائح، خاصة وان قانون الانتخاب لم يعد يسمح بتمديد تشكيلها الى عشية يوم الاقتراع نفسه كما كانت الحال سابقاً. ويأتي في هذا السياق اعلان تيار "المستقبل" اسماء مرشحيه بالامس، ليسرع من عملية تشكيل اللوائح، وتفصيل التحالفات حسب الدوائر، وهي عملية لا يمكن استشراف حصيلتها سلفاً، وان كانت اجواء الاسبوعين الاخيرين، والتحالفات الموضعية المعلنة في بعض المناطق، قللت منسوب المفاجأة على هذا الصعيد.