يبدو لي اليوم بالذات أن ذاكرتي تسترجع مقولتين واختباراً ذاتياً انطبعت كلّها في تكويني الشخصيّ؛ وتعود المقولتان لكلّ من الفيلسوف الوجودي الدانماركي سورين كيركيغارد والروائي الأميركي مارك توين. يذكر كيركيغارد وأقتبس المقولتين من اللّغة الإنكليزيّة: "لا يمكننا أن نفهم الحياة سوى بالعودة إلى ما حصل، لكننا نستمرّ بعيشها عبر التطلع إلى الأمام"، أما توين فيكتب أن "التاريخ لا يتكرر لكنه يتجانس". فكيف لنا، إذًا، أن نتذكر الماضي، لنتعلم منه ونتعظ ثم نمضي إلى حيث ما نريد؟  

أما الخبرة فهي ما أدركته باكرًا عن المرأة في كل أدوارها السياسيّة، لكن يبقى أهمّها ما تعلمته بمراقبة تصرفات جدي "أبو وضاح" وأقواله عن دور المرأة في الحياة السياسيّة والنضاليّة وعن احترامه لها وتقديس عملها. فمن هن هؤلاء النساء اللواتي نحتفل اليوم بيومهن العالمي، وما معنى أن نحتفل بهذا اليوم أصلًا؟ وهل تكفي باقات الورود والتهنئة بهذا اليوم لنتّعظ؟ وما الدروس التي علينا أن نتلقفها من جديد؟

"نريد أجورًا لائقة تؤمّن لنا الحدّ الأدنى ويوم عمل لعشر ساعات فقط"، بهذه المطالب انطلقت مسيرة نسائيّة عفويّة يوم الثامن من آذار، في العام 1857 في نيويورك في الولايات المتحدّة الأميركيّة قادتها نساء عاملات من مصنع الملابس والنسيج احتجاجًا على تدني أجورهن وساعات العمل الطويلة (نحو 12 ساعة وأكثر في اليوم) وعبء الأحمال اليوميّة. لم تكمل هذه المسيرة طريقها، فما لبث أن قضي عليها بوحشيّة من الشرطة.

ونعود إلى نيويورك مرّة أخرى مع مسيرة نسائيّة في 8 آذار 1908، قادتها عاملات مصنع النسيج وأضيف على المطالب السابقة، حقّ التصويت ومنع عمالة الأطفال. وتتناغم المشهديّة الدراميّة لنهاية التظاهرة عند حضور الشرطة لتفرقة المتظاهرات وقمعهنّ أو زجهن في السجون.

في العام 1910 دعمت كلارا زيتكين الناشطة الألمانية والمناصرة لحقوق المرأة اقتراحًا مفاده الاحتفال باليوم العالمي للمرأة في 8 آذار من كلّ عام أسوة بالاحتفال الوطني للحزب الاشتراكي الأميركي وتخليدًا لحقّ النساء في تحقيق العدالة الاجتماعيّة.

وللمصادفة تتجانس أحداث التاريخ الأليمة مرّة أخرى في 25 آذار 1911، في أتون حريق ضخم نشب في الطبقات العلوية لمصنع تراينغل شيرتويست TriangleShirtwaist. أدّى الحريق إلى مقتل ما لا يقلّ عن 146 عاملاً وعاملة أغلبهنّ من المهاجرات إلى الولايات المتحدّة الأميركيّة، إِما احتراقًا أو خنقًا من الدخّان أو عبر محاولة الفرار من الموت بالقفز خارج المبنى بعدما أغلق مالكو المصنع الباب كإجراء طبيعي آنذاك تجاه العمّال. نتذكر هذا اليوم في قصيدة "الخبز والورود Bread and Roses " استوحاها الشاعر والروائي الأميركي جايمس أوبنهايم من خطاب ألقته الناشطة النسويّة والعضو في الرابطة النسائيّة النقابيّة روز شنيدرمان في العام 1912 حين قالت: "من حقّ العاملة أن تحصل على الخبز، ومن حقّها أيضًا أن تحصل على الورود" لتصبح لاحقاً نشيد الحركات النسائيّة والمطلبيّة العادلة بعدما لحنتها المغنيّة والكاتبة الأميركيّة ميمي فارينا.

ونسأل هل يجرؤ الحرّ أن يتكلم؟ وفق قصة "سردين" للروائي الصومالي نور الدين فارح هذا صعب جدًا في ظلّ عقليّة قبليّة مستبدّة حيث إن تجرأنا كما "مدينا" على قول الحقيقة في وجه السلطة، نُعزل ونخسر عملنا وقد يُضطهد المقربون منا. وفي اقتباس بسيط للمفكرة والناقدة الهنديّة غاياتري سبيفاك في مقالها الشهير "هل يستطيع التابع أن يتكلم؟" نرى أن سخريّة الحريّة في خلاص النساء بعد موت أزواجهن في الهند، هي بحرق أنفسهن، تطبيقًا للطقس الساتي الهندوسي.

وبالتقدم في مسيرتنا نحو الآن، ما الذي نستنتجه؟ 

في لبنان نخطئ عندما نؤطر تاريخ النضال النسوي في صورة غربيّة أولًا، ومن ثم في صور نساء علا شأنهن وتربعن مراكز هامّة وذلك من دون الإقلال من إنجازات كثيرات. غير أن أوراق التاريخ كثيرة وسميكة جدًا، ونحن ننسى أننا نحتفل بنساء عاديات جدًا اضطلعن بدور غير عادي في بلدانهن أو في مجتمعهن وفق ظروف وثقافة خاصّة جدًا. هذا اليوم هو لنتذكر ما تعانيه عاملات المنازل الأجنبيات في لبنان عندما يُصادر جواز سفرهن ويُقفل الباب عليهن يوميًا ومن نساء بحجّة خوفهن من أن يهربن. هذا اليوم هو لنتذكر ما حققناه معاً من إنجازات ومما تعلمناه من خيبات الأمل أيضًا.

وليتجانس التاريخ الآني مع الماضي لم يزل أمامنا الكثير لنبذله في سبيل تحقيق العدالة في لبنان: حقّ المرأة في إعطاء الجنسيّة لأولادها، سنّ قوانين تتناغم مع العصر وإلغاء قوانين بائدة خصوصاً ما يتعلق بقانون العمل المناهض للعائلة وللمرأة، تعديل قوانين الأحوال الشخصيّة كما نظام الكفالة للعمالة الأجنبيّة والنظر إلى المرأة كقدرة إنتاجيّة وليس كقدرة إنجابيّة فحسب... ومع كلّ ذلك إن لم نعمل معًا من منظار خصوصيّة ثقافيّة- اجتماعيّة وإن لم نجرؤ على قول الحقيقة في وجه السلطة، نحن نجذّر لمفهوم التبعيّة وتالياً نؤخّر تحقيق العدالة الاجتماعية وإحقاقها.

(ربى الحلو)