شكّلت زيارة الموفد السعودي نزار العلولا والسفير المفوض وليد البخاري بمشاركة السفير وليد اليعقوب محطة تحوّل فاجأت الجميع ، وأعادت خلط الأوراق ، بعد أن كان "حزب الله" قد بدأ يتعاطى مع لبنان وكأنه ولاية إيرانية ، يتحكّم هو ببوابتها السياسية والأمنية ، وبعلاقاتها الخارجية ، وإذْ بالخطوة السعودية تبدّد النشوة الإيرانية بالسيطرة على البلد.
 
 
ورغم كل الحملات التي سبق لرئيس الجمهورية ميشال عون أن شنـّها على المملكة العربية السعودية أثناء أزمة إستقالة الرئيس سعد الحريري وإتهامه للرياض بإحتجاز وإختطاف رئيس حكومة لبنان ، إلا أن الموفد السعودي بدأ جولته من قصر بعبدا ، واضعاً الأمور في نصابها ، وفارضاً على الرئاسة العودة إلى الخطاب الدبلوماسي المتوازن ، والإعراب عن الحرص على أفضل العلاقات مع المملكة وتقدير دورها.
 
 
مؤشرات الزيارة 
 
 
 
المحطات المتتابعة لجولة الموفد السعودي زخرت بالمعاني السياسية وبالإشارات الهامة ، من معراب حيث إعتبر الموفد السعودي أننا في "بيتنا" ، مع ما لهذه الكلمة من أبعاد.. وحديث من الحكيم في عمق الإشكاليات القائمة ومصارحة عبر الإعلام للرئيس الحريري بأن هناك هوّة واسعة تفصل بين القوات والمستقبل على مستوى الرؤية السياسية وكيفية إدارة الدولة والصراع الداخلي..
 
 
 
اللقاءات الأخرى إزدحمت بمؤشرات الإنفتاح والتعاون من زاوية الإحترام والإعتبار لمختلف الأحزاب والشخصيات الإسلامية والوطنية ، دون أي حواجز أو عوائق ، بل إن حرارة اللقاءات كانت السمة الأبرز ، وخاصة بإتجاه الرئيس نجيب ميقاتي الذي قال له الموفد العلولا إن "لك شعبية قوية في المملكة يا دولة الرئيس" ، واعدا بزيارته في طرابلس ، حيث سيكون له حديث موسع.
 
 
كذلك كانت الأجواء مع حزب الكتائب وبقية الشخصيات التي شملتها الجولة.
 
 
زيارة رئيس الحكومة سعد الحريري كانت زيارة رسمية ، إستـُبعد عنها مدير مكتبه نادر الحريري ، وتلقى فيها دعوة لزيارة المملكة ، ما لبث أن لباها سريعاً ، وأيضاً من دون نادر ، حيث يبدو أن العلاقة بين الحريري والمملكة ستكون محصورة به شخصياً بدون أي حضور لمستشاريه الذين لا تزال علامات الإستفهام تدور حول حقيقة الأدوار التي قاموا بها خلال أزمة الإستقالة.
 
بعد جولة الوفد السعودي غادر الرئيس الحريري إلى المملكة حيث إلتقى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي العهد الأمير محمد بن سلمان ، بعد أن حظي بإستقبال رسمي على أرض مطار الرياض من الوفد السعودي الذي زار لبنان.
 
ومن الواضح أن مسار العلاقة بين الحريري والسعودية ستأخذ الشكل الرسمي ، مع الإنفتاح على جميع القوى ، بما فيها المستقبل بما له من حيثية ، لكن المظلة السعودية ستغطي كل ألوان الطيف الإسلامي والوطني المحافظ على الثوابت اللبنانية.
 
 بعبارة أخرى ، يمكن الإستنتاج أن مرحلة الآحادية في التمثيل السني وإعتماد جهة واحدة قد إنتهت ، لصالح الإنفتاح والتعاون مع كل من يعتبر نفسه في جبهة الدفاع عن عروبة لبنان وميثاقه الوطني وسيادته وإستقلاله.
 
 
 
إرباك "حزب الله"
 
 
لم يكد الوفد السعودي يصل إلى بيروت حتى إستنفر إعلامُ "حزب الله" وبدأ حملة تشكيك واسعة ، محاوِلاً النيل من الخطوة التي لا شكّ أنها فاجأته وأربكته من حيث التوقيت والشكل والمضمون ، وباشر حملته بتحريك دعوى سياسية من غير ذي صفة ضد الوزير ثامر السبهان ، بالتوازي مع وصول الوفد السعودي.
فتوقيت الجولة السعودية جاء في وضعيةٍ كان "حزبُ الله" قد أرسى قواعدَ السلوك الإنتخابي ، وتمكن من خلال قانون الإنتخاب من تكبيل مجمل خصومه عبر إدخالهم دوامةَ تحالفاتٍ متناقضة ، يستفيدُ منها (الحزب) في المقام الأول.
ومع إحكامه السيطرة على البلد ، بدأ "حزب الله" يتصرف وكأن لبنان ولايةُ إيرانية ، وأن الدورَ السعودي هو دورٌ دخيل ، ويجب أن يخضع لبوابة العبور الإيرانية في لبنان.
 
 
من هنا ، هاجم عضو كتلة "حزب الله" الوزير محمد فنيش زيارة الموفد السعودي نزار العلولا، معتبرًا انها "مسارعةً للملمة الصفوف"، ومعتبرًا انها مؤشر لحصول الانتخابات في موعدها.
وإنتقدت أوساط "حزب الله" مروحة "اللقاءات التي عقدها والتي تعدت الاطار الرسمي". إلا أن ذلك لم يمنع هذه المصادر من القول ان الحزب سيسهب في قرءاة مفاعيل هذه الزيارة وسيهتم بإنعكاساتها وبمن شملتهم اللقاءات السعودية والغاية منها والتي يمكن ان تتعدى شد عزم قوى 14 آذار على توحيد الرؤية لخوض الانتخابات المقبلة بما يمكنها من الإلتقاء بدل التباعد كما هو حاصل راهناً.
 
 
واضح من موقف "حزب الله" أنه يعتبر نفسه مفوّضاً أعلى للدولة ، يقوم بتقييم وتحديد الموقف من أي حركة داخلية أو خارجية ، وإصدار الأحكام عليها وإستخدام الإعلام والحملات السياسية لإستهداف ما لا يسير وفق خطه السياسي والإستراتيجي.
 
ومن هنا فإن الحزب يمتلك الوقاحة ليحذّر من إعادة إحياء قوى 14 آذار وكأن هذا المسعى جريمة وطنية يجب التصدي لها ، والعمل على منعها ، متجاهلاً كيف يقوم المسؤولون الإيرانيون بلقاءات تشمل الأحزاب اللبنانية والفصائل الفلسطينية ويقومون بإطلاق المواقف النافرة المسيئة لسيادة لبنان دون مراعاة لأدنى أصول العمل الدبلوماسي.
 
 
إستمرار الحراك الرافض لهيمنة "حزب الله"
 
 
لا شك أن نشوة "حزب الله" الوهمية بأنه يستطيع إخضاع لبنان لسطوته وإسكات الأصوات الرافضة لتشريع سلاحه وضرب هيبة الدولة ، قد سقطت ، رغم عدم إلتئام قوى 14 آذار ، لأن شرائح واسعة من الرأي العام اللبناني باقية على قناعاتها الوطنية والسيادية ، وتتمسك بشرعية إتفاق الطائف وبالشرعية العربية والدولية لحماية لبنان وتحييده عن نيران العدوان الذي تشنه إيران على العرب في العراق وسوريا واليمن والبحرين..
وما "حركة المبادرة الوطنية" التي أطلقها الدكتور رضوان السيد والدكتور رضوان السيد ويقف "التحالف المدني الإسلامي" في صلب توجهاتها ، إلا نموذج عن إصرار اللبنانيين على التمسك بمشروع الدولة والتصدي لمشروع الدويلة.
 
 
وما لجوء السلطة إلى الضغط لإلغاء مؤتمر المبادرة الوطنية بذريعة أمنية واهية إلا نموذج من سلوك سلطة لا تريد أن تسمح بمشهد جامع للبنانيين يعلن بوضوح رفضه لسلاح "حزب الله" ، بتواطؤ من شركائه في السلطة ، ومنهم من غادر 14 آذار ، حتى لا يبدو هؤلاء على حقيقتهم وكي لا تنكشف تنازلاتهم ، مع بروز قوة وطنية ثابتة على مبادئ السيادة والإستقلال.
 
 
 
مصارحة ضرورية
 
 
إن معادلة ميزان القوى القائمة في لبنان تجعل فريق أتباع إيران يوسعون سيطرتهم على الدولة ، بسبب إمتلاكهم السلاح غير الشرعي بدعم متراكم من إيران ، في حين كانت المملكة العربية السعودية تراكم في دعم الدولة ومؤسساتها.
 
المعادلة القائمة الآن تستوجب إستخلاص العبر من المراحل السابقة ، وأهمها:
 
 
ــ أن هناك ضرورة لبناء منظومة سياسية تنموية تتبنى مشروع الدولة ، وتتلاقى مع العمق العربي للبنان ، بعد أن وصلت سياسة إعتماد التعاون مع جهة محدّدة بشكل حصرية إلى نتائج كارثية ، بسبب فشل هذه الجهة في إدارة السياسة والتنمية على حدٍ سواء. 
 
 
ــ أن المناطق السنية ، هي مناطق منكوبة إنمائياً وإجتماعياً ، وتحتاج عملية إنقاذ منهجية ، تـُخرجها من دائرة مفرغة لا تنتج إلا الفقر وتتيح لخصومها محاصرتها بتهم التطرف والإرهاب.
 
 
ــ يدعو أبناء هذه المناطق المملكة إلى إنشاء وكالة للتنمية السعودية في لبنان ، أو تفعيل بعض المؤسسات الإنمائية والإنسانية ، للعمل بشكل مباشر على مشاريع تكون كفيلة بتغيير حياة الناس نحو الأفضل.
 
ــ في ضوء الصراعات الإقليمية المحتدِمة تبقى ثوابت 14 آذار الوطنية راسخة في الوجدان الشعبي ، وهي أرضية صالحة للإستثمار في إعادة التوازن إلى جسم الدولة ، إنتصاراً لقيم العيش المشترك والوحدة الوطنية ، وهو أمر يستوجب العمل عليه خلال وبعد مرحلة ما بعد الإنتخابات النيابية.
 
 
ــ إن ما ننتظره من الدور السعودي في المرحلة المقبلة مبادرة متكاملة ترفع مستوى العلاقات إلى درجة متقدمة ، خاصة أنها شهدت حدثاً تاريخياً لا يجوز ولا يمكن إغفالُه ، تجسّد في الزيارة التاريخية التي قام بها البطريرك الماروني ماربشارة بطرس الراعي إلى المملكة العربية السعودية ، مع ما تحمله من معانٍ عميقة سيكون لها أثرُها البالغ في تطوير التواصل الحضاري الذي تقودُه المملكة لجعل حوار الحضارات وتعاون الأديان ، عاملَ إستقرار وسلام في لبنان والمنطقة ، وسيكون لهذا البعد أثره الواضح مع زيارة وزير الخارجية السعودي عادل الجبير إلى بكركي في الفترة المقبلة.
 
 
 
الرسالة السعودية: دورٌ صلب ومهماتُ بناء
 
 
 
ظهر من زيارة الوفد السعودي وتداعياتها ونتائجها أن وزن المملكة العربية السعودية أكبرُ من أن تستطيعَ تحجيمَه أساليبُ إيران المتفلّتة من الضوابط القانونية والإنسانية ، وبالتالي عندما تقرّر الرياض الحضور ، فإن دور إيران الدموي ينكشف ، ويصبح الدور السعودي هو المَخرج ، كما هو الحال في العراق ، حيث عاثت طهران تدميراً وإفساداً ، وتعمل الرياض على إعادة بناء الدولة والحدّ من الجموح المذهبي وإعادة التوازن الوطني.
 
فها هي السعودية تقوم بعملية الإنقاذ الوطني في العراق ، رغم كل الدعاية الإيرانية السوداء التي سادت طيلة الأعوام الماضية.
تمثـّلُ السعودية قطب الإستقرار والحفاظ على النسيج الوطني في العالم العربي ، مقابل فوضى الحروب التي تقوُدها إيران ، وطالت نيرانـُها دول المنطقة.
وفي لبنان ، ورغم إحتدام الصراع مع إيران ، إلا أن السعودية بقيت ثابتة في دعم الدولة والكيان ، وأقامت علاقات تعاون مع الشعب اللبناني ، هدَفت إلى الحفاظ على النسيج الوطني والنموذج المتنوع الذي إرتضى الإحتكام إلى إتفاق الطائف. 
 
 
تتقن الدبلوماسية السعودية مفاجأة خصومها وإرباكهم ، رغم هدوء حركتها وسكينة مفرداتها ، وإحتفاظها بالخطاب الراقي والفاعل ، وهو ما ظهر من خلال جولة الوفد السعودي الأخيرة ، التي وازنت بين إحترام الدولة ومرجعياتها الدستورية وبين ترتيب العلاقات الطبيعية والمشروعة مع حلفائها الملتقين معها على دعم مشروع الدولة والتصدي للمدّ الإيراني في لبنان ، وما مسارعة السفير الإيراني إلى زيارة قصر بعبدا فور إنتهاء جولة الوفد السعودي ، إلا نموذج من قلق طهران الذي لم تستطع إخفاءه ، رغم كل مظاهر المكابرة التي مارسها "حزب الله" تجاه الزيارة السعودية.
 
أظهرت الجولة بدلالاتها المتشعبة أنه لا يمكن إستفزاز المملكة العربية السعودية أو وضعها في الزوايا الضيقة ، بل إن الدور السعودي يتجدّد في كل مرحلة ويتطوّر ويواكب كل التحديات ، مع الأخذ بعين الإعتبار أن الحفاظ على مشروع الدولة أكثر صعوبة وأثقل كلفة ، مادياً وسياسياً ، من مشروع التخريب والتدمير الذي تنشره إيران في المنطقة.
 
 
أخيراً ،
 
 
أظهر سفير المملكة الجديد في بيروت وليد اليعقوب حنكة ودراية وحسن تظهير لمواقف المملكة وقدرة على حياكة وإدارة العلاقات مع الأطراف اللبنانية بطريقة أثارت إعجاب الأصدقاء وغيظ الخصوم ، الذين أدركوا أنهم أمام قامة دبلوماسية لا تهزّها عنتريات إعلامية أو ضغوط سياسية ، بل إنه يرسم بهدوء صفحة العمل الدبلوماسي العربي الأصيل والبنـّاء من أجل المصلحة العليا للسعودية ولبنان.
 
 
 
•أمين عام التحالف المدني الإسلامي في لبنان.