عزوف الرئيس فؤاد السنيورة عن الترشح للانتخابات، يُعتبر بداية الخروج من دائرة العمل السياسي الصغيرة، إلى رحاب العمل الوطني، المترفع عن الحسابات الحزبية الضيّقة، والمتطلع إلى آفاق مترامية من العمل الجدّي والمستمر في مسيرة بناء الدولة القوية بمناعتها، والقادرة بوحدتها وتماسك مؤسساتها الدستورية.
تجربة فؤاد السنيورة الطويلة والغنية، لا يمكن اختصارها بمقال، ويستحيل التوقف عند دروسها وعبرها ببضعة أسطر. فهو المناضل في حركة القوميين العرب، والناشط في مرحلة الدراسة الجامعية، ورئيس النادي الثقافي العربي، والمناصر الدائم للقضية الفلسطينية، والمؤتمَن على أسرار القطاع المصرفي إبان رئاسته للجنة الرقابة على المصارف، ومهندس انطلاقة بنك «البحر المتوسط» عندما انتقلت ملكيته إلى الرئيس رفيق الحريري، لإخراجه من تعثره في الإدارة السابقة!
وبقي فؤاد السنيورة على مثابرته المعهودة في الإنتاج والإنجاز، عندما انتقل إلى جانب الرئيس الشهيد، ويتسلم وزارة المالية بالوكالة، حيث حقق خلال سنوات قليلة، سلسلة خطوات نوعية، جعلت من المالية أول وزارة تعتمد الأنظمة الالكترونية الحديثة، وتنقذ ملفاتها الأرشيفية، من مستندات عقارية ومالية، من العبث اليدوي الذي كان يُهدّد مصالح المواطنين، ويُعرّض ملكياتهم للخطر.
لم تشفع لفؤاد السنيورة نزاهته وشفافيته وحرصه على المال، عندما عارض وحيداً في مجلس الوزراء، دفع الملايين لمحرقة برج حمود المهترئة، فحاولت الكيدية السياسية النيل منه شخصياً، عبر إحالته للقضاء، ولكن انحياز القضاة للحق، أحبط مخططات الثأر والانتقام الحاقد.
بعد استشهاد الرئيس رفيق الحريري، تولى الدفة إلى جانب نجله الشيخ سعد، الذي جدّد ثقة الوالد بالأخ والصديق ورفيق الدرب الطويل.
لم تكن طريقة حكومته الأولى مفروشة بالورد والرياحين، بل كانت أسيرة حقل ألغام متفجّر، استهدف الحجر والبشر، حيث سقطت نخبة من شهداء ثورة الأرز، وتنقلت التفجيرات الليلية بين الأحياء والمناطق لنشر الذعر والرعب في نفوس جمهور 14 آذار، ومع ذلك استمر ممسكاً بمقود حكومته، حتى بعد خروج عدد من الوزراء منها.
وتجلت صلابة رجل الدولة في المعركة الديبلوماسية المضنية التي خاضتها حكومته إبان حرب تموز 2006، والتي استمرت قرابة أربعين يوماً، وألحقت بالمرافق العامة والبنية التحتية الكثير من الخراب والدمار، قبل أن يتم التوصّل إلى القرار الأممي 1701، الذي أوقف آلة الدمار الإسرائيلية.
ومرة أخرى لم يشفع لرئيس الحكومة نجاحه في المعركة الديبلوماسية التي واكبت الحرب المدمرة على لبنان، إذ سرعان ما طغت أحاديث التآمر والتخوين على بطولات الصمود والتصدي العسكري والديبلوماسي، وتم احتلال الساحات في وسط بيروت، ومحاصرة السراي الكبير لسنة وبضعة أشهر، انتهت بتسوية مؤتمر الدوحة، بعد اجتياح «حزب الله» لبيروت يوم 7 أيار  2008.
استمر فؤاد السنيورة على ثوابته في الحكومة التي أجرت انتخابات عام 2009، وفي رئاسته لكتلة نواب المستقبل، وفي متابعته الحثيثة لورش مجلس النواب القانونية، مستلهماً دائماً مواقف الرئيس الشهيد رفيق الحريري في معالجة الأزمات الطارئة، أو الملفات الشائكة.
نجح رجل المواقف الصلبة في اكتساب احترام الأشقاء والأصدقاء، الذين وجدوا فيه «رجل دولة» يتحمّل المسؤولية بشجاعة، ويُدافع عن مشروع الدولة حتى الرمق الأخير.
فؤاد السنيورة، قامة وطنية، لا ينتهي دورها مع نهاية ولاية نيابية، لأن الوطن يُنادي رجالاً يحافظون على الأمانة ولا يُبدّلون تبديلاً!