تطرح في سوق تداول الافكار اقتراح تطبيق نموذج "وستفاليا" من اجل ارساء السلام في الدول التي تعاني الحروب في الشرق الاوسط. فهل صحيح ان الحروب الحالية في الشرق الاوسط حالياً تشبه حرب الثلاثين سنة في المانيا (1618-1684)، وهل كانت تلك المعاهدة وصفة ناجعة لألمانيا؟ 

يبدو ان قراءة هيغل تجعلنا نفكر بطريقة اخرى.

فهو يرى ان الحرب الالمانية التي كلفت خسائر في الأرض (لمصلحة فرنسا وهولندا والسويد وسويسرا) وأودت بحياة 40% من سكان الريف و35% من سكان المدن؛ كان في خلفيتها انتقال الانقسام الذي حصل على المستوى الديني واللاهوتي والمذهبي بين البروتستانت والكاثوليك الى تقسيم للنفوس والارض والوطن. وتكرس هذا الانقسام في القرار السياسي – الديني التقسيمي الذي شكلته معاهدة وستفاليا.

لقد زرعت في الدستور الالماني بذور لدولة لا يراد لها ان تكون دولة بالمعنى الديموقراطي... بل مجرد غطاء قانون شكلاني لدويلات مذهبية تتقاسم السلطة الفعلية والمصالح على الارض.

يمتعض هيغل مما وصلت اليه حال المانيا، وهو يعرّف الدولة الوستفالية المذهبية القائمة بأنه فوضى شرعية، وقانونها الدستوري بأنه نظام حقوقي يعمل ضد الدولة".

بينما نجد هنا أن الأمر معكوساً، فليس الدين ما يقسم الدولة، بمعنى احداث الانقسام السياسي، بل العكس يستخدم الافرقاء السياسيون الدين كتغطية لأطماعهم السياسية وصراعاتهم. وهذا منذ البداية عندما اختلف المسلمون عند وفاة النبي بين تيار مع التوريث القائم على القربى والدم وبين من أراد الحكم شورى. لم تكن الخلافات على العقائد الدينية كما في حرب المانيا. ولقد أوجدت تلك الاختلافات العقائدية فيما بعد كغطاء للصراع السياسي واستخدم الدين لإذكاء العصبيات.

هذا من ناحية، اما من ناحية اخرى فالمشكلة في دول المنطقة لم تبدأ على أساس ديني - مذهبي، بل انطلقت من انتفاضة الشعوب ضد انظمة حكم مستبدة ركزت انظمتها واجهزتها الامنية تحت ذريعة محاربة الجسم الغريب – اسرائيل- الذي زرعه الاستعمار، وخصوصا الانجليزي، منه لوضع اليد على المنطقة. اضافة الى ان الصراع المذهبي حالياً يفتت الدولة الوطنية عبر تدخلات خارجية تلحق قسماً من مواطني الدول بمشاريع ومصالح دولة اجنبية لها مطامعها وتشكل تهديداً للدولة نفسها.

المفارقة الاخرى أن نهاية مرحلة وستفاليا افضت الى الدولة الوطنية في المانيا، بينما تطرح الفكرة اليوم كبديل عن الدولة الوطنية القائمة ولو المنقوصة بسبب انظمة الاستبداد التي حكمتها. لكن انهاء الحروب الحالية بفرض بتقسيمات حديدة على أساس ديني فيه نكوص وعودة الى الوراء بدل إيجاد حلول أجدى وأكثر ملاءمة للممارسة الديموقراطية والمواطنية التي تطمح اليها الشعوب.

فالقاعدة العامة بحسب هيغل: "يؤدي تداخل الدين في الدولة، الى حجب الحقوق المواطنية". ويحمل الدين مسؤولية التمادي في الحرب الباردة عبر غرس التقسيم المذهبي عميقا في الدستور من خلال اتفاقيات وستفاليا؛ فيما يسميه عملية التدمير الكبرى، المتجلي في غياب الدولة في الانموذج الديني في ميادين عدة:

ابرزها القانوني والمالي والسيادي والعسكري.

القوة العسكرية تصبح ضعيفة في ظل الانقسام المواطني، حيث يشعر الافراد العسكريين انهم لا ينتمون لجسم واحد متماسك. فالقرار العسكري يعني هذه الفئة ولا يعني تلك.... فيدعو هذه الجهة الى الالتزام التام وتلك الى التنصل. لذا هزمهم الجيش الفرنسي الموحد.

فالعقيدة العسكرية المذهبية لا تصلح لتحقيق الانتصارات العسكرية. العنصر النفسي الاجتماعي يجعله يشعر كأنه ينتمي الى أمة اخرى مع ما يعنيه ذلك من تخوين... وجعل الآخر الداخلي بمثابة عدو.

الشأن المالي 

نفس الامر ينطبق على الشأن المالي العام في نظره، واول الآثار السلبية تنعكس على القوة العسكرية، الموزعة بين قوى فرعية يتبع كل منها الى مرجعية مذهبية تعمل على تحقيق هدف ممولها الاساسي، لا هدف الدولة العام. في ظل التقسيم للسلطة يبطل حضور الدولة والحياة العامة وعلى هذه القاعدة يغيب مفهوم المال العام، الاساسي في أي دولة، قديمة كانت او حديثة.

وعندما تضعف او تغيب قوة الدولة المالية تضعف جميع مكوناتها، مهما قوي شأنها محليا.

طعن في مبدأ السيادة

لا يكترث حكام وأسياد المقاطعات – في ظل الدستور المبني على المحاصصة المذهبية- بما يحصل لمناطق لا تعنيهم مباشرة... فالوطن الصغير ينفي وجود الوطن الكبير المتمثل بالدولة.

من هنا يعتبر هيغل ان شرط بناء الدولة الوطنية المنجزة تلك التي لا تأخذ بعين الاعتبار السيادات المذهبية الصغرى. انه شرط اساسي في بناء الدولة الحديثة بفضل بناء علاقة عقلانية بين مختلف مكونات الدولة وسلطتها المركزية.

ويستنتج ان المانيا الدويلات المستقلة عن بعضها - هي دولة بالفكرة لا في الواقع .