أما وقد تبيّن من مناقشات مشروع موازنة 2018، ان خفض العجز من خلال تقليص نفقات الوزارات، لن يشكل فارقاً، وان المشكلة ستبقى قائمة، وستظهر مخاطرها قريبا، فان السؤال الذي سيُطرح على الحكومة الجديدة بعد الانتخابات النيابية المقبلة هو التالي: ما هي الخيارات المتاحة لتحاشي الانهيار؟
 

اذا افترضنا ان الحكومة سلّمت هذا السؤال (ما هي الخيارات المتاحة لتحاشي الانهيار؟) الى خبراء اقتصاد مخضرمين، وطلبت منهم ان يضعوا امامها كل الخيارات المتاحة، وتعداد ايجابيات وسلبيات كل خيار على حدة، لكي تستطيع الحكومة ان تقرّر أي من هذه الاقتراحات سوف تعتمد، ما هي الخيارات التي قد ترِد في دراسات الخبراء؟

يمكن تقسيم الاقتراحات الى فئتين: فئة الاقتراحات الطويلة الأمد، وفئة الاقتراحات القصيرة الأمد. وبما أن الوضع المالي أصبح معقدا وخطيرا الى حد انه لا يمكن الانتظار لانقاذه بخطة طويلة الأمد، فان التركيز في البداية ينبغي ان يكون على الخيارات السريعة، والتي يمكن ايجازها بالنقاط التالية:

اولا – التخلي عن سياسة تثبيت سعر صرف الليرة، وترك السوق يقرر سعر الصرف من خلال العرض والطلب وقوة الاقتصاد. هذا الخيار يتيح خفض حجم الانفاق على الاجور في القطاع العام، بعد تضخّم هذا البند في الموازنة الى حوالي 38 في المئة. واذا افترضنا ان السوق أفرز سعرا جديدا لليرة بحيث أصبح الدولار يساوي 3 آلاف ل.ل. بدلا من 1500 ل.ل. كما هي الحال اليوم، فان الخزينة تستطيع ان توفر حوالي ملياري دولار سنوياً.

كما ان كتلة الدين العام بالليرة سوف تنخفض بمقدار النصف اذا ما تمّ احتسابها على القيمة الجديدة للدولار. طبعا، هذه التسعيرة لليرة في حال التخلي عن سياسة التثبيت هي افتراضية، وسعر الليرة قد يكون أعلى أو أقل من السعر الافتراضي وفق الظروف الاقتصادية وأوضاع السوق.

في المقابل، سوف تنشأ أزمات اجتماعية قاسية ناتجة عن وجود كتلة كبيرة من القروض بالدولار على المقترضين تسديدها مضاعفة في حال كانت مداخيلهم بالليرة، وهذه حال القسم الاكبر من اللبنانيين. كما ان المصارف ستواجه أزمات ترتبط بارتفاع الديون المشكوك في تحصيلها.

ووفق المعايير الدولية الجديدة، ستكون المصارف مضطرة الى حجز اموال احتياطية لتغطية مخاطر هذه الديون، بما يقلّص أكثر من نسب الارباح. كذلك ستتراجع القدرة الشرائية للموظفين، وستصبح ظروفهم المعيشية أصعب بكثير مما كانت عليه قبل حصولهم على سلسلة الرتب والرواتب.

في المقابل، ستتراجع القدرات الشرائية لموظفي القطاع الخاص الذين لم يحصلوا على زيادات في الاجور واصبح هناك فجوة في مستوى الاجور بينهم وبين القطاع العام. وفي هذا الوضع قد يوافق ارباب العمل على زيادة الاجور، لأنهم فعليا سيدفعون أقل مما يدفعون اليوم، رغم اي زيادة سيتم اقرارها، على اعتبار انهم يحتسبون كتلة الاجور المدفوعة بالليرة على قيمتها بالدولار.

ثانيا – فرض ضرائب مرتفعة على الافراد، بما يعني عمليا مضاعفة الضرائب او اكثر على الدخل. وهذا النوع من الضرائب يمكن تحصيله بسهولة على عكس الضرائب على الارباح المفروضة على المؤسسات والتي يتم التهرب منها بسبب المحميات السياسية والفوضى، وهذا الوضع غير قابل للتغيير في المدى المنظور على الاقل. وفي المقابل، فرض ضرائب استهلاكية على عدد كبير من السلع، وهذا النوع من الضرائب يمكن تحصيله مباشرة، مثل رفع الضريبة على المحروقات.

هذا الخيار يتيح زيادة الايرادات بما يوازي ملياري دولار سنويا. وهو طبعا، مثل سياسة التخلي عن سياسة تثبيت سعر صرف الليرة، سيؤدي الى تراجع القدرات الشرائية لكل المواطنين، وسيزيد منسوب الفقر اكثر، وسيضرب بالكامل قدرات الطبقة الوسطى ويحولها الى طبقة فقيرة.

ثالثا – بيع فوري لعدد كبير من مؤسسات القطاع العام، في مقدمها قطاعات الكهرباء، الاتصالات، الطرقات... سواء من خلال الخصخصة الكاملة، اوعبر الشراكة السريعة بين القطاعين العام والخاص. هذا الخيار يتيح ضخ اموال سريعة في الخزينة، ويوفر خسائر الكهرباء، ويسمح بالحفاظ على مداخيل الاتصالات، من خلال انشاء شركة ثالثة او حتى رابعة، وتوسيع دائرة الخدمات. كما ان السماح للقطاع الخاص بالاستثمار في البنى التحتية مثل الطرقات، يسمح بالاستغناء عن الاقتراض الاضافي من قبل الدولة لتنفيذ هذه المشاريع.

في المقابل، فان الخصخصة في ظروف مالية صعبة، يؤدي الى عمليات بيع مجحفة نسبيا في حق البائع، خصوصا اذا ما كان القطاع المُباع قطاعاً خاسراً، مثل الكهرباء مثلا. كما ان خصخصة الطرقات والبنى التحتية قد ترفع كلفة الاستخدام على المواطن، خصوصا في الامكنة التي لا توجد فيها خيارات بديلة.

هذه الخيارات لا تشكل المعالجة الجذرية للأزمة، بل هي حلول سريعة وطارئة، توصف في الحالات الدقيقة، كما هي حال الدولة اللبنانية في هذه الحقبة، وهي معالجات تسمح بالصمود بانتظار اعتماد خطة طويلة المدى لتغيير الاتجاه من الانهيار الى الطريق الصحيح. وكلها خيارات صعبة ولديها تأثيرات جانبية مؤذية للناس، لكن من قال ان دولة يسمح المسؤولون فيها بالوصول الى هذا الوضع المأساوي، في مقدورها ان تنجو من دون أن يدفع مواطنوها الثمن؟

أما الخطط الطويلة الأمد، فانها متروكة لمرحلة لاحقة، وللدراسات التي تعدّها «ماكينزي»، وسواها من الخبراء، وكلها خطط قد تكون جيدة، لكن لا قدرة للبنان على الانتظار، هذا اذا افترضنا ان الخطط هذه المرة ستُنفذ، ولا يوجد أي مؤشر يدلّ على ذلك.