... ثُمّ عاد اللواء جميل السيّد (مدير الأمن العام «اللبناني» السابق)، ليس إلى منصبه الذي شغله سنوات، بل إلى الفضاء السياسي الرحِب، بعدما رشّحه «حزب الله» على لوائحه الانتخابية.

غادر «مديراً» ورجع مرشّحاً. انتقل شغفه الأثير الطاهر من وظيفة برَعَ عبرَها في الإصرار على «أمن» المواطن، وعلى «الوطن». (أقصد لبنان)، وعلى «الحريات العامّة»، و«احترام الآخرين» في أفكارهم وآرائهم ومواقعهم، وحماية السيادة برموش اليدين، وإعلاء فكرة الاستقلال لتكون البوصلة في التحرّر من كل وصاية خارجية (أمنية - ميليشيويّة - طائفيّة) بالدفاع عن الدولة اللبنانية، وعلى العمل بجهود هائلة غير «كليلة» على قدسية حرّية التعبير في الصُّعُد كافة، الصحافية، والفكرية والاجتماعية والفردية..

عاد ليُكمل مساره «الذهبي»، المزدان بالإنجازات، لا سيّما دعم المقاومة كجزء من «الممانعة»، كضمانتَين للتحرير، والجهاد، والنضال خصوصاً ضد العدو الصهيوني، ودعم الشعوب العربية في حركاتها وانتفاضاتها ضد طغاتها الداخليين والخارجيين، وخصوصاً الشعب السوري، ابتداء من وطنه الأم والأب المُفترض أنّه لبنان، والذي أراده على امتداد «عهده» في الوظيفة الأمنية حرّاً، سيّداً، عربياً.

عاد جميل السيّد متلبّساً بالدور السياسي، بلا أقنعة، ولا ماكياج، وكانت السياسة في صُلب عمله، وفي عمق هواجسه وتوجّساته، لأنّها تؤكد حرّية الصراع والتنافس الحر، والبرامج الوطنية التي تخدم المواطن، فلم يأتِ إذاً من جوفٍ «مذهبيّ»! (لائحة حزب الله في مجملها علمانية، وهو في قلب «مجملها»!)، فأيّ معنى لـ«لؤلؤة الشرق» إذا مُسّت، بإشعاعها، بفعل الوجود الميليشيوي، أو التدخل الخارجي، أو استخدام العنف؟ والمطاردة والقمع لتشويه تألّقها، وحرف اتّجاهاتها؟

وهذا ما سبق لجميل السيّد أن أبدع به، وهو مُصرّ اليوم أكثر من أي وقت مضى على مبادئه؛ فهو لم يعد «بخفي حنين» بل بعِتاد ملأَ جُعْبَه بورود الحرّية، وجنّات الديموقراطية.

... وجد السيّد أنّ هذه الديموقراطية، برغم كلّ شيء، ما زالت (ربما بفضله وفضل فلول الميليشيات والنظام البعثي المثالي). هشّة، ونسبية. وما عليه، في مهّمته «البرلمانية» الجديدة (إذا نجح)، سوى تجذيرها، وتشريشها، أعمق وأعمق في التشريعات، والقوانين، وعلى المدى الشعبي، والحزبي، والصحافي، والثقافي. فالديموقراطية، كانت وما زالت بالنسبة إليه «سبب وجود العالم»(!). فالعوذ بالله من الدكتاتوريّات القريبة والبعيدة.

فقد نأى بنفسه عنها نأي المؤمن عن الكُفر. ولا يكفي في مثاليّته أن تكون مجرّد نظريّات «يوتيوبيّة»، بل ممارسة. وقد مارسها جميل السيّد باقتناع، وانخراط في حركاتها وتجليّاتها!

وهو ضنين بها. عاشها في كل نبضة من جوارحه في الأمن العام، وطبّقها بحذافيرها في مختلف تعابيرها، في السياسة، وحرّية التعبير والفكر، والصحافة، والتحرّكات، وها هوَ اليوم بالوسواس نفسه يرى أن «تكون الديموقراطية في لبنان أو لا تكون! تكون الحرّية مُنزّهة عن الوصايات الخارجية أو لا تكون». وإذا كان يرى أنّ هذه الديموقراطية مُهدّدة، فليس سوى الدولة مَن يحميها: لا الميليشيات السابقة، ولا ميليشيات حزب الله، ولا سراياه، ولا امتداداته. لا دولة في ظل دويلة أو دويلات. هذا رأيه؟ نعم، يتمسّك به بعناد «الكبار». لا دولة في ظلّ هيمنة طائفية بالسلاح والمال، وهذا ما يميّزه عن الآخرين. فهو «وُلِدَ» (حرّاً) «علمانيّاً»، تشرّب منذ طفولته حتى كهولته، وأثناء وظيفته وما بعدها، ضرورة فصل الدولة عن الدّين، فما بالك عن المذهبية! والدليل: أنّه يفضّل أن يخوض المعركة على لوائح حزب إيران وليس على لوائح أي حزب «مدني»، وفي ذلك عِبرة: إنّه يريد من داخل حزب الله وحليفه السوري، أن يفجّر الطائفيّة! تماماً كحصان طروادة. كأنّه يقول «أنا لغم الديموقراطية المدنية» في الحزب المذهبي والنظام البعثي الدكتاتوري. فلا تستهينوا بي، واستشفّوا نيّاتي «الاستبطانيّة».. أنا لغمٌ في جوفٍ الوصايتَين السورية والإيرانية.. فافهموا عليَّ؛ وكفّوا عن مهاجمَتي، وفتح ملفّات مزيّفة عنّي. تعمّقوا في وجودي وجرّبوني كما جرّبني كثير غيركم ونجحتُ في امتحاناتهم. ثقوا بي. وانتظروني.

خطاب العودة المُفترض

إنه خطاب العودة المُفترَض. لا خطاب الثأر، ولا الاستئثار، ولا موافاة الطغيان، فهو نطَقَ مؤخراً كما يجب أن ينطق رجال الدولة العِظام، كتشرشل، وريمون إدّه، وألبير مخيبر وميتران.. فهو ينتمي إلى الكبار (وإن كان سرّه في قلبه كالشعراء). يردّ على مُنتقديه ردّ المجبولين باحترام الآخر ومشاعره وآرائه، رد المفكّرين والمثقّفين الذين احتكّوا بالسلطة وخرجوا منها على نضج التين والعِنَب والخل، ويعودون إليها بما هو أجدى، وأخصب، أي اعتناق كل ما من شأنه أن يصوّب مسار لبنان (حبيبه) من الانحراف الطغياني إلى استقامة المواطنيّة الحيّة، المنفتحة على أعراض الديموقراطية سواء المباشرة أو غير المباشرة، الثوريّة أو الناعمة. جاء ليكمل لا لينتفض.

وإذا نقضَ فلِكَي يُصلح، وإذا أصلح فلِكَي يُرَمم، وإذا رمَّم فلكي يبني، وإذا بنى فلكي يرفع صرحاً أعلى من ناطحات نيويورك، كفضاء لملاذ المواطن، والمقهور، والمظلوم، والمأسور، والمسجون (ظلماً)، والمتّهم زوراً.

وهذه مهمّات لا تليق إلاّ بالكبار. وهو من جِبِلّتهم ومعجونهم ومسحوقهم يمكن أن يوزّع على الكل، فيشفي مَن يشفي من أمراض القمع، والمطاردة، والعمالة، والعنف، والجنون. ودواؤه ناجع لإقناع الآخرين ممّن ضلّت بهم سُبُل «الحرية» إلى الفوضى، و«الحق» إلى الضلال، إنّه بحق جاء على صهوةِ «المنقذ من الضلال»، ومن الفساد، وتدمير المؤسسات، وربطها بالأهواء، عاد «مواطناً» ذا مواطنيّة قلَّ نظيرُها. فهو موظّف جعل قِيَم المواطنيّة نبراساً له، خصوصاً في مديريّة الأمن العام، الذي مَهَر أثناء وجوده فيها، على تنزيهها من كل شائبةٍ يمكن أن تحوّلها عن مسارها المواطني، إلى مسار «البلطجية»، ومحاربة التعدّدية، والتواطؤ مع الجرائم والاغتيالات واختراق القوانين (برعايته الكريمة). على هذا الأساس، ولكي تكتمل تجاربه في مختبرات القمع، والتصفية، والمطاردة، استنجد، قبل كلّ شيء، بأساتذة هذا النوع من الحكم، وأطبائه، ودكاترته أمثال بشار الأسد، وخامنئي بطلابه الأبرار حزب الله؟ التقط المجد «السلطوي» من قرنَيه، وكان عليه، لكي يبدو التلميذ النجيب لمعلّميه (كما كان أفلاطون بالنسبة إلى سقراط) أن يتقن ما علّموه إيّاه، ويطوّره، ويوسّعه، لكي يحظى بما يحظى الحواري من معلّميه. ذهب إلى الأقصى، وإلى النقاط الحُمر من غلوّه في التعامل مع المعارضين، ومع «المنتفضين» من أبناء بلده: من 14 آذار إلى ثورة الأرز، فإلى التحرر من جيش آل الأسد.. إنّه الانتماء العظيم غير المشوب بأي شائبة اعتراض أو ممانعة أو مقاومة.

جميل الرّهيب

وكان مبتغاه أن يصير «جميل الرّهيب»، الذي يزرع القوّة «الإيجابية» المقتحمة والمرعبة، في قلوب مَن تجرّأوا وحاولوا تحطيم جدران الوصاية السورية، وخلاياها، وعمّالها وعملائها ومرتزقتها. كأنّما أراد أن يرسم لنفسه أمام الناس، صورة «الحاكم»، القاطع، البلا رحمة، ولا قلب، لكي يُدجَّن بالخوف، والتهويل، والسلطة، كلّ من يراوده الاعتراض على تسلّط «الدويلة»، الإيرانية في لبنان، والوصاية السورية! إنهما اقنومان من أقانيم مواجهة العدو الصهيوني (ليس في الجولان طبعاً)، بل بين اللبنانيين (وامتداداً إلى السوريين). وهل تنجح مواجهة العدو المحتل بغير ضبط المجتمع وصهره بالقوّة، لتتساوق زواياه، وينصاع أهله، ويركنون إلى منازلهم خاضعين، كي يتجنّبوا البطش، والقتل، أو المطاردة، أو السجن أو التخوين.

وحدويّ

ومَن قال إنّ جميل السيّد ليس «وحدويّاً»، هنا عروبيّاً، وهناك إيرانيّاً. وكما ارتاح لاستتباب الوصاية الأسدية، ها هو يرتاح بزهوٍّ لانخراطه في «دويلة» حزب الله! وترشيحه عليها دليل ساطع على إيمانه العميق بها. ابن الدولة الذي هدم الدولة وخدم الدويلة. ابن الديموقراطية الذي استلهم العقل المخابراتي، والميليشيوي، وقهر الذين يعيشون داخله، ابن النظام الديموقراطي، يسخَر من الديموقراطية، ويرتمي في حضنَي الدكتاتوريّتَين الدمويّتَين الأسديّة والإيرانيّة. ابن لبنان ينحاز إلى العنصرية الفارسية! رائع!

سياسي

إنّه رجل «مكتمل». سياسي من طراز أحفاد الجنرال بيتان وفلول البعث. فجميل الرّهيب (على غرار «إيفان الرّهيب» المشهور) يعود إلينا بخطاب النائب العتيد، لكن بكلمات البوليسي «العلي»، «الأمني» على طريقة صدام والقذافي والأسد وعلي صالح. فكأنّه جاء من هناك وليس من هنا. وها هو بجلده القديم، وسحنته الماضية، وصوته القاطع، وصرخته المدوّية، يواجه رفض أهل المجتمع المدني له، وجلّهم من جيل الشباب، لعودته المدنية.

النائب

فالنائب هو وجه مدني متقدّم، مشرّع، عقلاني، لكنّ المجتمع المدني يرفض تسلّل شخص إليه، عبر التصويت، ليُشهر سيوفه الصدئة عليه. فالناس تعرف السيّد وربما لا تعرفه، لكن تتحرّى مسالكه: فهو رفيق ميشال سماحة في سيارة «الموت» المكتظّة بالمتفجرات. يدري أو لا يدري؟ وما همّ إن درى أو لم يدرِ ما دام هو رفيق درب سماحة النضالي بين أحضان الوصاية السورية. والوصاية السورية بفلولها هي التي أرسلت مع ميشال سماحة هذه المتفجرات لارتكاب مجازر جماعية بحق المسلمين السنّة في عيد الفطر!

إذاً، لا فارق! (حتى في عتَب السيّد على سماحة لأنّه لم يخبره بهذا الحدث العظيم الجلَل). وهو الذي يُكلّله بغار المهنة البوليسية من خلال تهديد الصحافيين، والمعارضين؛ أخبرَني صديقي سمير قصير كم عانى من مطاردة «صبيان» جميل السيّد، أمام منزله، في المطاعم (وصولاً إلى منزل الرئيس الحريري)، وكيف ضيّق عليه الحركة ليزرع فيه الرعب. لكن لم يتسنَّ لسمير أن يرتعب، فقد فُجّر في سيّارته، كما كان مصير جورج حاوي، ومي الشدياق وقبلهم جميعاً مروان حماده. إنّه في الأمن العام، ويُفترض به اكتشاف الجرائم قبل وقوعها.. لكنّه استبقها بملاحقة المعترضين على معلّميه الإيرانيين والبعثيين. الأمن العام، يكشف الناس للاعتداء عليهم بدلاً من أن يحميهم. إنها ذروة الوظيفة التي عُهدت إلى جميل السيد والكل يعرف مَن أوصله إليها. وهل ننسى كيف «تصدّى» (وهو ابن جبهة الصمود والتصدي) لاغتيال الحريري، وشهداء 14 آذار: المثالية المطلقة! لم يعتمد التشويش والتضليل، إطلاقاً، لحرف الأنظار عن المرتكبين الحقيقيين. ولم يشترك أبداً في اختلاق حكاية أبو عدس والحجّاج الأستراليين.. للتمويه أيضاً.

لا! فالناس تعرف ذلك وتستبصره، وتستشفّه. اعتقلوه بأمر المحكمة الدولية! أفرجوا عنه. فاستقبله حزب إيران بسلاحه في المطار. رائع! عودة «البطل» بمواصفات الضحية. وكأنّ الحريري والشهداء الآخرين لم يعودوا الضحايا. ومن تابع مساره «اللفظي» وتصريحاته، قبل الاغتيالات وبعدها، يكتشف كم اعتمد السيّد لغة التهويل، والتهديد والاتّهام والتنديد حتى بانتفاضة الأرز. فهو ابن 8 آذار وشكراً سوريا، وليس ابن 14 آذار و«برّا برّا سوريا». وبين «شكراً» و«برّا برّا» هاوية من المفارقات! ومن لا يتذكّر خُطبه الأخيرة، عندما رفع أصابعه وهدّد من يتعرّض له، ويتّهمه، وينتقده.

عندما ردّ، وبهذا الصلف، على مي الشدياق وجيسيكا عازار، لاجئاً إلى القضاء. كأنّه يروّج لدولة القانون، وهذا طبيعي فهو رفيق القاضي عدنان عضوم بمآثره التي لا تقل عن مآثر جميل السيد.. فلا فارق عنده بين أن يكون مديراً للأمن العام أو نائباً عن الشعب: فالنائب يستعمل لغة الأمن، والمدير يستخدم لغة القانون. أولَم يهاجم المحكمة الدولية؟ نعم! لأنّه كان يفضّل أن يتولى المحاكمة أقران عضّوم، الذين كادوا يفرجون عن ميشال سماحة، من دون العقاب الذي يستحقّ، والذين أخرجوا العميل الإسرائيلي فايز كرم كبطل للحرّية..

فمدير أمن عام على طراز السيّد لا يمكن إلاّ أن يتناغم مع قضاة ما زالوا عضّوميّين.

ولجوء السيّد إلى وسيلة القضاء، برفع دعاوى على الصحافيين وسواهم، ليست جديدة، فبعدما استخدم سلاح الدولة الأمني (لمصلحة الدويلة) لقمع المعارضين بوسائله الترهيبية، ها هو يستخدم القضاء.. لكمّ الأفواه، والترهيب..

إنّه جميل السيّد تظنّه عاد «بثيابه الجديدة» كنائب عتيد، لكن سرعان ما تكتشف أنّه كان في الأمن العام بمثابة «حصان طروادة» وها هو في مجلس النواب «كحصان طروادة» آخر.

كنّا ننتظر دائماً «غودو» ولم يأتِ، فصِرنا ننتظر جميل السيّد. غودو العصر الحديث.... على حصانه الأبيض المطهّر... لكن الخشَبي.

حصان طروادة النظامَين السوري والإيراني!

وأخيراً لا آخراً نسيت أن أشكرك أيها اللواء على الدعوى التي رفعتها علي قبل سنوات بتهمة القدح والذم كتعبير عن احترامك للرأي «الآخر» من رعايا الجمهورية!.

 


 

بول شاوول