"إن فتائل الأزمات تشعلها الديون دائماً وأبداً". صندوق النقد الدولي 

يمكن تعريف الدين العام على أنه حجم ديون الدولة للمقرضين خارج وداخل الدولة نفسها، ويمكن أن يكون هؤلاء المقرضين إما أفراداً، أو شركات وحتى حكومات أخرى. تقوم الحكومات بالاقتراض عن طريق إصدار الأوراق المالية، السندات الحكومية. فعادةً تقوم الدول ذات تصنيف ائتماني منخفض بالاقتراض من منظمات كبيرة مثل البنك الدولي أو المؤسسات المالية الدولية بمعدلات فائدة مرتفعة. على المدى القصير يمكن أن يكون للدين العام تأثير إيجابي على حكومات الدول فيمكن أن يستخدم كوسيلة من قبل هذه الحكومات للحصول على أموال إضافية للاستثمار في الاقتصاد حيث أن الدين العام هو وسيلة آمنة للأجانب للاستثمار في نمو البلاد عن طريق شراء السندات الحكومية. لكن عندما يرتفع الدين العام بشكل كبير هذا له تأثير سلبي على اقتصاد الدولة وعند وصول الدين العام إلى مستويات مرتفعة عادةً ما يطالب المستثمرين بمعدل فائدة أعلى. وإن ارتفاع الدين العام ومعدلات الفائدة له تأثير كبير على الاقتصاد أيضاً على المدى الطويل حيث تواجه هذه الحكومات صعوبة في التسديد التي تركز انفاقها على سداد ديونها وليس على الاستثمار في مشاريع اقتصادية تخدم في مصلحة الدولة. ويتم قياس درجة المخاطر في اقتصاد معين عن طريق مقارنة الدين العام بالناتج المحلي الاجمالي لهذه الدولة، فيستخدم الناتج المحلي الإجمالي كمؤشر لمدة صحة الاقتصاد ومدى إمكانية الدولة من سداد ديونها. 

مصادر الدين العام

تتوزع مصادر تمويل الدين في لبنان، بين مصرف لبنان المركزي و "باريس 2"، وحكومات ومؤسسات متعددة الأطراف، وغيرها، لكن الجزء الأكبر منه يعود لسندات "يوروبوندز"، ومن ثم المصارف في لبنان. وبحسب الإحصاءات، فإن حصّة مصرف لبنان من الدين العام المحرّر بالليرة اللبنانية ارتفعت قليلاً بين نهاية آذار ونهاية نيسان 2017 لتبلغ 39.5%، فيما بلغت حصّة المصارف التجارية 45.5% وانخفضت حصّة القطاع غير المصرفي إلى 15.2% . ويستفيد منها عدد من المصارف الضخمة التي تسيطر بما يشبه الاحتكار على السوق المصرفية من جهة، وعلى تأمين تمويل الدولة مقابل فوائد مرتفعة جداً من ناحية أخرى.

أسباب تراكم الديون

بالنظر إلى أسباب تراكم هذا الكمّ من الدين العام، نرى أن عجز الموازنة – أي بمعنى أخر الانفاق العام – يُشكّل الأساس من هذا الدين العام. وتُشير الأرقام أن العجز منذ أخر موازنة في العام 2004 وحتى نهاية العام 2017 بلغ حوالي 45.4 مليار دولار أميركي تراكمياً. ومن بين العوامل التي ساهمت أيضاً في زيادة حجم الدين العام ما اقترنت به سياسة التثبيت النقدي من تحسن تدريجي، ولو بطيء، في سعر صرف الليرة إزاء الدولار الأميركي، مما جعل كلفة خدمة الدين الداخلي مقوّمة بالدولار الأميركي، ترتفع بنسبة هذا التحسن. مع العلم أن هذا الأخير هو في جانب كبير منه مصطنع ومرتبط بالفوائد المرتفعة التي تقوم عليها سياسة التثبيت النقدي. وإن زيادة الانفاق التشغيلي والمصاريف الحالية، مثل خدمة الدين البالغة نحو 3 مليارات دولار، ودعم الكهرباء بمبلغ مليار ونصف المليار دولار، وبدلات مضافة على الرواتب والأجور بقيمة 500 مليون دولار، كانت من الأسباب الرئيسية لارتفاع الدين العام.

تفاقم المشكلة

إن مشكلة الدين العام في لبنان ليست مشكلة جديدة، وإن كان تفاقمها قد اشتدّ في شكل خاص بعد العام 1995. الدين العام اللبناني ارتفع بشكل جنوني منذ نهاية الحرب الأهلية في لبنان من 3.39 مليار دولار أميركي في العام 1993 ليتخطى 80 مليار دولار في بداية العام 2018، مع مُعدّل وسطي يبلغ 3.1 مليار دولار أميركي سنوياً. وإن كل طفل لبناني مولود حديثاً مدين بحوالي 13 ألف دولار. في العام 2017 أصدرت وكالة "فيتش" العالمية للتصنيف الائتماني تقريراً عن الوضع اللبناني، أشارت فيه بالأرقام إلى ازدياد الدين العام في لبنان. فقد نما الدين العام بنسبة قياسية تبلغ 8.6% على أساس سنوي في آذار 2017. ومقارنة بنيسان 2016 فقد ارتفع الدين العام من 71.68 مليار دولار إلى 77.17 مليار دولار في نيسان 2017 أي زيادة قياسية وخطيرة بحوالي 5.5 مليار دولار. وبالتالي فمن المرجح أن يصل الدين العام إلى 110 مليار دولار في الخمس سنوات المقبلة إذا استمرت وتيرة نمو العجز على حالها وستصبح كلفة الدين العام وهي ما يدفعها الشعب اللبناني في ال 8 سنوات القادمة حوالي 8 مليار دولار. ومقارنة بحجم الاقتصاد الذي من المرجح أن يكون 60 مليار دولار في 2020 فإن الدين العام سيشكل نحو 185% من حجم هذا الاقتصاد في حال تسجيل معدلات نمو لهذا الاقتصاد بنسب 1 و2 %. وأشارت وكالة "ستاندرد آند بورز" في 3 أيلول 2017 إلى خطر الزيادة الكبيرة في نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي. ويعدُّ لبنان من بين الدول الأكثر مديونية في العالم؛ وذلك من حيث نسبة الدين إلى نسبة الناتج المحلي الإجمالي، والتي وصلت إلى 152% خلال 2017، بحسب صندوق النقد الدولي. وهو يأتي ثالثاً خلف فقط اليابان (239%) واليونان (181%). بكلام آخر، يفوق الدين حجم الاقتصاد، ما يجعل الحكومة تستدين أكثر فأكثر مراكمةً ديون ومستحقات. وفي 17 تشرين الثاني 2017، نشر موقع "بلومبرغ" قائمة الدول التي قد تتخلف عن سداد ديونها، وذلك على طريقة فنزويلا، التي تخلَّفت عن سداد بعض ديونها، وضمّت القائمة ثلاث دول عربية على رأسهم لبنان، ثم مصر، ثم البحرين. وكان صندوق النقد الدولي قد حذَّر في منتصف أيلول الماضي، من الديون المتفاقمة، مطالباً لبنان بالسيطرة على ديونها السيادية، وموضحاً أن "الأوضاع الاقتصادية تبقى صعبة". وقد قام فريق من خبراء صندوق النقد الدولي يقوده كريس جارفيس بزيارة إلى بيروت من 6 إلى 13 كانون الأول 2017 للاطلاع على آخر التطورات الاقتصادية والمالية في لبنان، وتقييم آفاق الاقتصاد، ومناقشة أولويات السياسة. وفي ختام الزيارة، أشار جارفيس في بيان إلى أن هناك حاجة ماسة لوضع الاقتصاد على مسار مستدام ووقف ارتفاع الدين العام حتى يتسنى الحفاظ على الثقة.

بحسب تقديرات البنك الدولي، تستهلك خدمة الدين العام 50% من موارد الحكومة، ما ينتقص من الأموال المتوفرة للإنفاق الضروري مثل أجور عمال القطاع العام (21% من الإنفاق) والخدمات الاجتماعية (17%) والدعم الحكومي (10%) والبنية التحتية (4%). ومع الارتفاع الهائل في الانفاق على الدين العام وخدمته لم يتبق للحكومة إيرادات كافية لتطوير البنية التحتية لشبكات المياه والاتصالات والطرق وغيرها، أو تأمين الكهرباء 24\24 ، أو دعم مشاريع استثمارية ضرورية لتحفيز النمو الاقتصادي. ما يطرح تساؤلات حول جدوى الاستدانة، في ظل غياب المشاريع الإنمائية الضخمة التي تتطلب عادة من الحكومات الاستدانة لإنجازها. وما يستدعي النفير العام لجبه هذه الأزمة المستفحلة وإلا فإن الكارثة قادمة لا محالة.

(د.أيمن عمر- باحث في الشؤون السياسية والاقتصادية)