عندما فكّر الرئيس الشهيد رفيق الحريري في تأسيس مستشفى حكومي جامعي لم يكن يهدف الى إضافة مستشفى جديد الى سلسلة المستشفيات الحكومية في لبنان، التي لا يذهب إليها إلا كل مواطن لبناني فقير أو غير قادر على تحمل كلفة الاستشفاء، كما كل مقيم في لبنان في صورة شرعية أو غير شرعية؟ ذلك أن الميسورين من هؤلاء ومن تبقى من الطبقة الوسطى ومن الموظفين الذين يغطيهم الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي (الفرع الصحي) أو شركات التأمين الجدّية وغير الجدّية في آن، كانوا ولا يزالون قادرين على التوجّه الى المستشفيات الخاصة عند الحاجة. علماً أنها ليست كلها بمستوى واحد، وعلماً أيضاً أن دخولها يحتاج أحياناً كثيرة الى تدخلات سياسية وحزبية. وكم من مرة مات على أبوابها مرضى صغار وكبار جرّاء رفض الإدارات في بعض المستشفيات استقبالهم بحجة عدم وجود أسرّة فارغة، في حين أن السبب الفعلي كان عدم وجود “مصاري” معهم أو مع أهلهم. أما المشمولون بالحمايات السياسية من المواطنين والمقيمين فكانوا دائماً قادرين على دخول المستشفيات الخاصة بإذن أو موافقة من وزارة الصحة، وبعض هؤلاء ومن دون أن نحدّد كانوا نسبياً قادرين وبكل يسر على دفع نفقات الاستشفاء في المستشفيات الخاصة، لكن لماذا لا يوفّرون إذا كان ذلك متاحاً لهم في “دولة بالاسم” ومسؤولوها على تنوّعهم وحكّامها تنقص الكثيرين منهم مقومات رجال الدولة أو صفاتهم.

كان الشهيد الحريري يفكّر في مستشفى حكومي يضاهي المستشفيات الخاصة المميزة في خدماتها الاستشفائية، التي لم يبخل عليها هو شخصياً بالدعم المالي والرسمي وحتى الخارجي. ذلك أنه كان مقتدراً جداً وليس بالمال فقط. وكان يفكّر في الوقت نفسه في جعل هذا المستشفى حافزاً لتقدّم الجامعة الوطنية أي الجامعة اللبنانية وخصوصاً كلية الطب فيها بتنويع اختصاصاتها، وذلك بجعله مستشفى جامعياً. وبذلك يكون خدم الفقراء والمعوزين من المرضى وحتى متوسطي الحال، وكذلك الراغبين منهم في فتح الاختصاصات الطبية أمام أولادهم نظراً الى عجزهم عن دفع تكاليف العلاجات المتنوّعة في القطاع الاستشفائي الخاص.

ونفّذ الشهيد فكرته فقامت المستشفى وبدأت العمل. لكن انتقاله الى جوار ربه قبل نحو 13 سنة بأيد غادرة، لا تزال المحكمة الخاصة بلبنان تحاول ومنذ سنوات طويلة معرفة أصحابها ومن وضع لهم خطة القتل ومن اتخذ قرار القتل، ولكن من دون نجاح واضح وملموس حتى الآن. ولا يعني ذلك تقليلاً من أهمية ما تفعله. لكن ليس أمامها عملياً إلا أربعة مشتبه فيهم بالتنفيذ وهي تحاكمهم غيابياً. أما الأمور الأخرى فلم يبدأ البحث فيها بعد، ربما لأن الجرائم التي من هذا النوع تكون المسؤولية عنها أكبر من أن تكشف ويعاقب أصحابها.

لماذا إثارة هذا الموضوع اليوم؟ لأن الشهيد رفيق الحريري ربما تتقلب عظامه في قبره كما يُقال، إذا كانت “تصله” أخبار مستشفاه الجامعي الذي صار بمستوى أدنى المستشفيات الحكومية مرتبة وخدمة وفاعلية، والذي يُضرِب كل مرة أطباؤه وممرضوه من الجنسين وموظفوه للحصول على رواتبهم، والذي يشكو نقصاً كبيراً في الأدوية وصيانة جدية للمعدات، والذي نشرت أخيراً وسائل الاعلام أخباراً عن تفكير “الدولة” بتحويله مستوصفاً صحياً. يا عيب الشوم. وهذه الكلمات موجّهة الى الدولة بكل مؤسساتها، والى الشعوب اللبنانية كلها وقياداتها الحزبية والسياسية والاقتصادية ومؤسساتها الطائفية والمذهبية والعشائرية. الى الدولة بسبب إهمالها المستمر بل غيابها وانشغال من يشغل مواقعها من فوق الى تحت باستغلالها من أجل مصالح غير وطنية، والى الشعوب لأن كلاً منها يريد مستشفاه ومستوصفه ومدرسته وجامعته… ولذلك “انقسمت” الجامعة اللبنانية فروعاً بهويات مناطقية وطائفية ومذهبية، وقامت مؤسسات جديدة على الأسس نفسها. وقد نجحوا في تحقيق ذلك الى حد كبير وعلى حساب الدولة التي يفترض انها جامعة.

أما الذي يجب أن توجه إليه هذه الكلمة مباشرة فهو وريث الشهيد رفيق الحريري نجله رئيس الحكومة سابقاً والآن وعلى الأرجح بعد الانتخابات. اذ كان عليه الاهتمام بمرفق رسمي عام يهم الناس ويحمل اسم والده ويخدم ناخبيه وناخبي غيره. لكنه لم يفعل، ولا يفيد هنا القول أنه كان مشغولاً بقضايا أهم ومُحارَباً أيضاً. فالآخرون من أركان الدولة وقادة شعوبها في آن كانوا مشغولين مثله ومُحارَبين مثله ومحارِبين لكنهم لم ينسوا تنفيذ أجنداتهم المذهبية والطائفية. والعتب عليه كبير ليس فقط لأن بيروت بهوياتها المتنوّعة خسرت مستشفاها الحكومي الجامعي أو ستخسره، بل أيضاً لأن اللبنانيين يعرفون أنه من أهل الاعتدال مثل والده الشهيد، كما آل الحريري كلهم، ولأن هذا المستشفى كان يفترض أن يعزّز الاعتدال. في هذا المجال قد يقول البعض أن الاهتمام بمطار رفيق الحريري الدولي تقوم به حكومته. وهذا صحيح ويقدّر له ولوزير الأشغال الزغرتاوي يوسف فنيانوس، لكن الاهتمام بالمستشفى أي مستشفى له أولوية. في أي حال ليس لـ”الموقف هذا النهار” اليوم مقاصد انتخابية، ولذلك يجب أن لا يوظفه أي مرشح في بيروت لمصلحته. له مقصد واحد هو لفت الرئيس سعد الحريري الى أن من يخوض معركته الانتخابية اليوم بعد سنوات من “الانكفاء” هو والده الرئيس الشهيد. فحملته تتحدث عن انجازاته وتريد تنفيذ برامجه. وهي لا تشير من قريب أو بعيد الى انجازات خلفه رغم دخوله السياسة قبل 13 سنة وهذه ثالث معركة انتخابية للشهيد وآخرها. أما آن له أن يرتاح، ويكتفي في عليائه برؤية لبنان دولة سيدة ومستقلة ومتقدمة وحرّة ولا طائفية أقامها قادة الوطن ومنهم ابنه؟