‎يكتب اندريه سيغفريد في كتابه روح الشعوب، عن ان القرن التاسع عشر الذي اعتُقد انه قومي وامبريالي ليس دقيقا، لقد كان برأيه عصرا أممياً متحررا بامتياز.

‎فقد حقق فيه الاوروبي، نمطا من انماط الوحدة العالمية التي تعيد ذكرى وحدة الامبراطورية الرومانية، فما ان تغادر اوروبا، حتى تدخل بقوة في نوع من الجمهورية التجارية الدولية. تصطدم بلا شك مع القومية ومع النزعة الحمائية لكن نتائجهما تظل  في نطاق ضيق. لانه كان عالم حرية التبادل.

‎تتملكنا الدهشة لسهولة التبادل ويسر المواصلات على الرغم من البون الشاسع بين طرق مواصلاته البدائية، مقارنة بالعصر الحديث وانجازاته المذهلة على صعيد المواصلات.

‎كان الناس ينتقلون بحرية تامة ومطلقة لا تقف معها في طريقهم حدود او جوازات سفر او ضرائب... مع سهولة وحرية التعاقد.

‎غداة الحرب العالمية الاولى وصلت الثورة الصناعية الاولى الى اوجها وحلّت المواصلات المُمَكننة محل عربات الجياد وقصّرت الطائرات المسافات، حاولت الدول التي قادت العالم القديم الابقاء على مكانتها لكن الحرب العالمية الثانية واستخدام القنبلتين النوويتين من أميركا المتفوقة صناعيا ارسى قواعد جديدة وأوجد عالماً ثنائي القطب. فتعايش قادة العالم مع منظومة من مركزين: واشنطن وموسكو، يحكمها توازن رعب.

‎لكن العالم الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية بدأ بالاختفاء مع انهيار الاتحاد السوفياتي. نحن الآن امام عالم جديد ينبثق ولم يتكون بعد.

‎نلاحظ ذلك بطريقة غير مسبوقة عبر ما يعرف بالعولمة المتسارعة. لقد سمحت الثورة التكنولوجية الثالثة كما سميت، و التي اعتمدت على استخدام شبكة الانترنت الذي خرج عن سيطرة الجيش والمخابرات، ليس فقط بربط الملايين دون وسيط وفوق الحدود والحواجز، بل ايضا بوصولهم الى المعلومات، عبر الشبكات الاجتماعية، بطريقة حرة غير مسبوقة وبإعطائهم القدرة على التدخل المباشر في صياغة الأحداث والتأثير بها.

‎مع ذلك تزداد الحواجز على الارض؛ ففي زمن المواصلات البطيئة المملة كان يتهيأ للفرد الوقت للاستعداد الذهني للاغتراب. لكن زمن الجزر المتباعدة انتهى لصالح الاتصالات والعلاقات الممكنة بسرعة وبشكل مباشر.

‎لكن هل خلق هذا فعلا علاقات افضل بين الناس؟ فلننظر حولنا: سنجد ان الحواجز السياسية والادارية قد اشتدت وتعاظمت في حين تحاول الوحدات القومية الدفاع عن نفسها بعوائق مختلفة.

‎ففي حين انحسرت المسافات واقتربت الحدود، نجد أن القيود تتزايد على حرية التنقل والحدود تقفل. الزمن الذي كسبناه تقنيا نفقده اداريا في دوامة الشكليات والتشريعات وتأشيرا الخروج.

‎لقد حقق القرن التاسع عشر الوحدة الاقتصادية للكون الى حدا ما. لكن تتصاعد اليوم حركات حمائية ضد الهجرات البشرية المتزايدة، ولم تعد الحرية التامة تسبغ ظلالها على الافراد والبضائع التجارية. ذلك ان مبدأ الحماية القديم الذي كان ينحصر في التعريفات الجمركية فحسب، لم يعد يربطه بمبدأ الحماية الجديد الا رباط واه. يحتاج الانتقال الى جوازات السفر، والاوراق الثبوتية وتوضيح غاية السفر مع المهمة والمدة ، او القرابة اذا وجدت ناهيك عن مكاتب الصرافة نوع النقد والكمية، اضحت الهجرة صعبة جدا. ومن العسير ان تسافر دون معاونة الدولة ورضاها.

‎والدورة المشهورة حول العالم التي قام بها فيلياس فوغ استغرقت ثمانين يوماً؛ واذا قارنا مع رحلته التي استغرقت 80 يوما؛ بينما تستطيع اليوم ان تقطع نفس الرحلة بثمان واربعين ساعة ؛ نجد انه كان قد انطلق في نفس الليلة التي راهن فيها على ذلك. ولكن كم يوما تستغرق عملية الاعداد لهذه الرحلة اليوم؟ اعداد جواز سفر وطعوم وتصريحات وفيزا واستبدال عملات ..

تسود العالم اليوم حركتان متضادتان، عولمة الاتصال والرأسمال العابر للقارات واقتصادات عملاقة عابرة للحدود مقابل حركة انفصال ذات طابع قومي وثقافي متصاعدة.

‎ففي حين اصبحت جميع الاتصالات والعلاقات ممكنة بسرعة ومن دون تأخير ؛ لكن هل يمكن القول ان هذه المغالاة في السرعة قد خلقت فعلا علاقات افضل بين الناس؟ فلننظر حولنا: سنجد ان الحواجز السياسية والادارية قد اشتدت وتعاظمت في حين تحاول الوحدات القومية الدفاع عن نفسها بعوائق مختلفة. ان الزمن الذي كسبناه تقنيا نفقده اداريا في دوامة الشكليات والتشريعات. واخيرا ان التقدم الكلي ليس مؤكدا.

‎نحن نشعر اننا لا نملك بوصلة او اشرعة في هذا المحيط الذي لم نعد نرى له شواطئ  (الشواطئ الآن صارت العالم الافتراضي).

‎العالم يتسع ويضيق في الوقت عينه.