لا يكفّ النظام السوريّ عن كسر أرقام قياسيّة. مأساة الغوطة الشرقيّة تشهد بذلك: إنّه «القصف الأعنف منذ...». «اليوم الأسوأ منذ...». «مقتل أكبر عدد من الأطفال منذ...». «تدمير أكبر عدد من المستشفيات منذ...».

هذا السلوك ليس «هستيريّاً». إنّه عاقل جدّاً، بل بارد جدّاً في عقلانيّته الشريرة والقاتلة. إنّه نظام.

لكنّ الضحيّة الذي يسقط اليوم في الغوطة، نتيجة لسلوك كهذا، يموت مرّتين: مرّةً لأنّه يموت ومرّةً لأنّ «مواطنيه» في عفرين يطلبون، ولو أنكروا، عون قاتله كي يحميهم من الأتراك. والشيء نفسه يقال في الكرديّ في عفرين، الذي قتله «مواطنه» السوريّ بعدما ارتضى أن يكون ملحقاً بالقوّات التركيّة التي تغزوه.

وإذ يعبّر علويّون سوريّون كثيرون عن فرحتهم بمقتل الأطفال «الإسلاميّين» و «التكفيريّين» في الغوطة، يعبّر سنّة سوريّون كثيرون عن «أملهم» بأن يحلّ بالعلويّين وأطفالهم ما يحلّ بأهل الغوطة وأطفالهم.

هذا ليس أفضل احتفال ممكن بالذكرى السابعة للثورة السوريّة التي تحلّ بعد أيّام.

صحيح أنّ هناك الكثير ممّا يقال في رداءة الأوضاع الإقليميّة والدوليّة الراهنة. وفي تراخي الشعور بالتضامن الإنسانيّ، بل بأحوال الإنسانيّة عموماً. لكنّ الاكتفاء بتسجيل هذه الحقائق بات يشبه الاكتفاء بتسجيل وحشيّة النظام السوريّ. وقد بات يُخشى تحوّل مثل هذه الإدانات، المُحقّة طبعاً وإن كانت لا توقف الموت، إلى ذرائع تؤدّي غرض السكوت عن المشكلة الأمّ: مشكلة الاجتماع الوطنيّ السوريّ الذي يُلحّ العمل على إنهائه في أسرع وقت ممكن.

فاستمرار هذا الاجتماع لم يعد يعني سوى استمرار الموت، ومعه استمرار هذا النظام، نظام الموت، إيّاه. فإذا كان الأخير مصدر إنتاج للقتل المعمّم، فإنّ ذاك الاجتماع البالغ التفاوت والعدائيّة بين السوريّين هو نفسه ما يعيد إنتاج النظام المذكور.

وقد يقال بحقّ إنّ لهذا النظام اليد الطولى، وإن لم تكن الوحيدة، في إنجاب هذه العدوانيّة المتفشّية. إلاّ أنّ العدوانيّة غدت تتغذّى على ذاتها وتنمو بقوّتها الذاتيّة المحضة، جاعلة إطاحة النظام، وكلّ مهمّة سياسيّة أخرى، أقرب إلى الاستحالة.

لقد تقلّصت الطموحات في ما خصّ سوريّة، وبات المهمّ هو وقف الموت. وأغلب الظنّ أنّ السوريّين باتوا أمام خيار لا يمكن ولا يجوز التحايل عليه، لا باسم الوطنيّة، ولا باسم القوميّة، ولا باسم اتّهام الآخرين أو منظومات ثقافيّة «أقنعتنا» بأنّ الطائفيّة وكلّ «عيب» آخر آتٍ من المستعمرين أو المستشرقين.

وربّما لا زلنا، للأسف، بحاجة إلى الكثير من الشجاعة كي نتجرّأ على هذا المسخ المسمّى سوريّة (أو العراق أو لبنان...). وهي شجاعة قد يتطلّب ظهورها زمناً مديداً نسبيّاً. في هذه الغضون، وإلى أن يحلّ ذاك الزمن، نحن محكومون باليأس. فالمعادلة اليوم: إمّا سوريّة واحدة وإمّا الحياة. والأسرع الأفضل.