الساعات الخمس التي أمضاها وزير الخارجية الاميركية ركس تيلرسون في بيروت بالأمس، لم تكن مطمئنة أبداً. هي تخرق حياداً مفترضاً يزعمه لبنان، ولا يخرقه سوى حزب الله، من دون ان ينتهك حالة الهدوء السائدة على حدوده الجنوبية، التي إدعى الاميركيون الحرص على دوامها، والتعهد بالتوسط مع إسرائيل حول نقطتي خلاف جديتين : الجدار ، والبلوك الرقم 9.

كان لبنان بغنى عن تلك الزيارة الخاطفة، التي أوحت بأن سياسة النأي بالنفس خدعة لا تنطلي على الاميركيين أيضاً، على الرغم من أن إعلان الانتماء اللبناني الى أحد محاور الصراع الاقليمي، لم يعد يقبل الشك، لا سيما بعدما سلم رئيس الحكومة سعد الحريري آخر أوراقه السياسية الى خصومه السابقين، وإستسلم لهم، وقرر ان يعهد إليهم بفرصه للبقاء ككتلة نيابية كبرى في معركة الانتخابات التشريعية المقبلة.

لكن تيلرسون لم يأت الى لبنان لكي يفاوض النظام السوري ولا النظام الايراني اللذين يتمتعان بالغالبية ويمارسان هيمنة مقنعة على القرار السياسي اللبناني. كان، وربما لا يزال هناك، رهان أميركي بأن يكون لبنان على مسافة واحدة من جميع القوى المحيطة به، ويحتفظ بهامش الخطأ في تقديره لنتيجة الحروب والصراعات الراهنة، التي لا يرى نهايتها سوى نصرٍ محتومٍ للمحور المقاوم والممانع الذي ينتمي إليه.

الخلاف مع إسرائيل بالغ الأهمية. الجدار يخرق الحدود ويستولي على جزء من الارض. وكذا الادعاء الاسرائيلي بان البلوك النفطي التاسع ليس ملكاً للبنان. لكنه ليس سبباً كافياً للحرب، التي لم تندلع غالباً على الحدود اللبنانية الجنوبية لدوافع أو مطالب جغرافية خاصة، بل كانت على الدوام جزءاً من صراع أقليمي، يتخذ طابع التهديد الوجودي، ثم ينحسر ليصبح أحد بنود التفاوض، مرة بإسم الثورة الفلسطينية ومرات بإسم المفاوض السوري او الايراني.

أما مبادرة أميركا الى التوسط لتسوية هذا الخلاف الحدودي المزدوج، والطارىء، فهي مضحكة. ولعلها جزء من عملية إبتكار نزاع خاص بين لبنان وبين إسرائيل، يؤدي ربما الى إختبار فكرة التفاوض الثنائي، المؤدي الى التعاون في إستثمار النفط والغاز ، او حتى الى التطبيع.. وقد كانت هذه واحدة من الافكار الاميركية المروجة منذ إكتشاف البترول في شرقي المتوسط، كما كانت واحدة من حوافز تشكيل جماعات ضغط لبنانية مشبوهة، تنادي بشراكة بترولية مع العدو الاسرائيلي، بوصفها الخيار الوحيد للإستفادة من الثروة اللبنانية الموعودة.

الفكرة الاميركية لا تزال مطروحة، وكذلك الاستعداد اللبناني لبحثها في بعض الغرف المغلقة، التي تعرف أن إسرائيل لم تقرر صدفة المطالبة بالبلوك التاسع بعد سنوات على ترسيم الحدود البحرية، مثلما لم تقرر عبثاً دفع الجدار نحو الاراضي اللبنانية. هي تريد التفاوض، أو على الاقل تقترحه، فاذا لم تنله، تكون قد زرعت عبوة سياسية ناسفة، في الداخل اللبناني، يمكن للبعض من فريق السلطة بالذات ان يتجاوب معها. وهو ما لاحت بوادره بالفعل في الاونة الاخيرة.

كانت تلك هي الخلاصة الأهم لزيارة تيلرسون الى بيروت، على الرغم من معرفته بان خيار التفاوض مع إسرائيل ما زال محرماً رسمياً في لبنان، وعلى الرغم من إدراكه بان بقاء لبنان بمنأى عن المواجهة الاسرائيلية الايرانية المتصاعدة في سوريا، يزداد صعوبة يوماً بعد يوم، بل يمكن أن يسقط في اللحظة التي تتحول فيها تلك المواجهة الى حرب شاملة  تبدو حتمية في نهاية الطريق، حسب بديهيات الصراع  السوري ودينامياته الحالية..وحسب ما ينبىء الاشتباك الجوي الاخير في العاشر من هذا الشهر.

مرّ تيلرسون من بيروت، ليشجع على حياد لبناني مزعوم، فإذا هو يدفع نحو خيار لبناني أسوأ، لا يجنبه الحرب المقبلة، بل يضعه في مقدمتها.