إسقاط الطائرة الروسية، كان عملاً سياسياً نُفّذ بقرار سياسي رفيع المستوى باتقان وذكاء، بعكس العملية التركية في إسقاط «السوخوي» الذي أنتج التهور في التنفيذ لأنه كان مكشوفاً في هوية من نفّذوه، أي الأتراك، خصوصاً أنه سجّل حوار الطيار مع قاعدته حكماً، فدفعت تركيا الثمن غالياً إلى درجة الانقلاب على نفسها وسياستها. في الحادثة الثانية حتى الآن لا يُعرف بالضبط من قام به وما إذا كان فعلاً كان صاروخ «ستينغر» الذي يثير ذكريات روسية (سوفياتية) سوداء هو الذي استُخدم، لأن معنى ذلك أن واشنطن قررت ذلك. مثل هذا الحسم يتضمن أن «الرسالة» تتضمن انذاراً واضحاً بأن «انقلاباً» قد رُسمت بنوده وستتبلور مفاعيله حسب التطورات، ومفاعيل الاستراتيجية الأميركية. هذه الاستراتيجية المجهولة حتى الآن. ولذلك يصحّ الرأي القائل أيضاً بأن ما يحصل مجرد اختبارات لوضع حدود لكل ما يجري طالما أن دونالد ترامب هو الرئيس، لأنه لا يملك سياسة واضحة ونهائية، سواء في الشرق الأوسط، أو في روسيا والعالم.

رغم هذا الضياع، فإن أمرين يتبلوران. الأول أن البنتاغون أصبح موقعه في صياغة الموقف الأميركي مهماً وحتى أساسياً. الثاني أنه يعمل على مواجهة التمدد الروسي، خصوصاً وهو يعلم جيداً، أنه في الوقت الذي ينشغل فيه بالهجمة الروسية - البوتينية، فإن الصين تزحف بقوة وطموحات واسعة. لذلك عليه أن يحسم موقفه عاجلاً أو آجلاً، حتى لا يفاجأ وتكون الواقعة إن لم تكن الكارثة ضخمة. ومن ذلك أن الاستراتيجية الصينية بالإمساك بالأطراف ومن ثم الانتقال إلى المركز للسيطرة عليه تتم اليوم عبر الزحف الصيني الناجح على أفريقيا.

حتى ولو كان الغموض سيد الموقف، فإن واشنطن وتحديداً البنتاغون، يجدان أن أميركا في قلب هجوم روسي مدعوم في مواقف معينة رغم الحذر الشديد من الصين، على غرار الحرب الباردة. الولايات المتحدة الأميركية لا تعاني فقط من الشرق الأوسط، خصوصاً في سوريا والعراق زائد الخصم الإيراني، وإنما أيضاً في: أوكرانيا وفي «حديقتها الخلفية» في فنزويلا التي يهدد انهيارها الاقتصادي بكارثة سياسية في زمن من الصعب جداً العودة فيه إلى سياسة «جمهوريات الموز»، وفي بولندا العضو في الاتحاد الأوروبي العاجز عن التدخل.. ومع كوريا الشمالية وكل أخطارها المفتوحة على مواجهة نووية. يُضاف إلى ذلك كله «الحرب الإلكترونية» وإمكاناتها الهائلة. باختصار إذا وضعت هذه الأزمات على خريطة العالم، تتوضح خطة استراتيجية روسية تهدف إلى تطويق الولايات المتحدة لإرباكها واستنزافها من دون مواجهة فعلية ولا حتى «حروب بالوكالة» تستفزها وتدفعها للرد بأقصى ما يمكنها مباشرة أو بالوكالة.

الغريب وحتى العجيب، أن سوريا تحوّلت الى أوسع وأخطر «حقول» المواجهات. لذلك كل حدث يتضمن «رسالة» مهمة. إفشال مؤتمر سوتشي (مهرجان سوتشي) اعتبرته موسكو عملاً أميركياً ضدها. لكن إقليمياً اعتبرت طهران أنه وإن كان ضد موسكو فإنه فعلياً ضد «محور المقاومة»، لذلك فإنها طرحت سؤالاً عبر إعلامها: ماذا لو فقدت موسكو صبرها إزاء هجمات أميركا في سوريا؟. لم يجد هذا الإعلام الموجه والمنضبط سوى التهديد بحرب إلكترونية أميركية. وما ذلك سوى لأنها تعرف حدود القوة. لكن من الواضح أن طهران تتخوف من انقلاب أميركي بسياستها في سوريا يصيبها في الصميم.

العالم يتغير والمواجهات وحتى الحروب تتغير في وسائلها وأهدافها. ومن الطبيعي أن تتطور الاستراتيجية الأميركية. وحدها الشعوب المغلوب على أمرها تدفع الثمن ولا تتقاضى سوى القهر بعد الآلام والدماء والدموع!