مداخلة الشيخ عباس الجوهري في مؤتمر يبحث مستقبل الشرق الأوسط وتداعياته على الأمن الأوروبي والسياسة الخارجية
 

الحديث عن مستقبل الشرق الأوسط والأمن الأوروبي والسياسة الخارجية وفي ظل الفوضى السياسية التي تعبث بالمنطقة لا يمكن الإحاطة به خلال هذه العجالة، إلا أن جملة عناوين قد تساعد بإيجاز على إيصال الفكرة والمقصد .
إن الإلتباس غير المفهوم للبرودة الأوروبية في التعامل مع أزمات المنطقة في شرق المتوسط ناتج إما عن تردد أو ضعف، وأنا أستبعد ذلك، وإما عن خلفية معرفية لطبيعة وإنسان هذا الشرق الذي كان تهديده قريبا على الأوروبيين في عمق التاريخ،  هذه العقدة التي جعلت الغرب الأوروبي يتطلع دائما إلى إدامة فجوة حضارية وإن لم يشارك في صنعها على الأقل ليس له المصلحة في إنهائها بل إبقاء هذا الشرق متخلفا بعيدا عن المنافسة التقنية والمعلوماتية، لأن الايديولوجيا التي تطبع إنساننا المشرقي شديدة الخطورة وخصوبة مجتمعاتنا المشرقية إذا ما تلمست القدرة في لحظة تاريخية فإنه قد يشكل خطرا على الأمن الأوروبي، وإن كان هذا بعيدا اليوم بل ومستحيل، لكن استحالته ليست من ذاته وأنا أعترف بأننا لم نقم منظومتنا الأخلاقية والسياسية وننتقدها حتى يطمئن اليها الآخرون في المجتمعات الاوروبية (إشارة إلى الفتوحات الاسلامية) وأنا هنا أدعو إلى مقاربة شفافة وبدون قفازات وعلى طريقة توسيع الصورة بحدقة العين لترى المشهد بعقول باردة وغير منحازة، وهذا ما حدا ببعض المفكرين المعاصرين من فرنسيين وإنكليز إلى عدم الحماس والمساعدة على انتشار الديمقراطية في عالمنا العربي والإنحياز إلى أنظمة استبدادية وحكام مجربين أفضل من أي تغيير ديمقراطي غير محسوب لأنهم يرددون دائما أن الديمقراطية جوهرة لا تليق بشعوب هذا الشرق وأن سياسة العصا هي الطريقة المثلى مع أنهم ينتمون إلى منظومة حضارية وقيم ديمقراطية وأفضل معايير لحقوق الانسان .

إقرأ أيضًا: عقل حمية يوارى في الثرى وقد عزّ عليه قلة الوفاء
لقد كان الشرق الأوسط  لعقود ولا يزال منطقة للحروب والنزاعات السياسية والأهلية وقد تفاعلت هذه الحروب والنزاعات في الآونة الأخيرة وامتدت بتداعياتها إلى الغرب وأوروبا بعد التحولات الأخيرة منذ عدة سنوات وإلى اليوم والتي أرجأت ولادة شرق أوسط جديد كاد يكون على مستوى الآمال والتطلعات نحو السلام ومعالجة القضايا السياسية الاساسية فيه.
وقد كان الإتحاد الأوروبي لاعبا أساسيا على المسرح العالمي وله مصالحه الأمنية والسياسية والإقتصادية واضطلع بمسؤوليات كبيرة على المستوى الإقليمي والعالمي من خلال السياسات الخارجية المشتركة لدول الإتحاد، ولعب الإتحاد الأوروبي دورا أساسيا في عملية السلام في الشرق الاوسط، وفي أزمة الملف النووي مع إيران.
اعتمد الإتحاد الأوروبي على مجموعة معاهدات نتج عنها  مجموعة أهداف سياسية مشتركة للإتحاد ومجموعة من المصالح الأساسية السياسية والأمنية.
وفي هذه الفترة بقي الشرق الأوسط تحت ضغط النزاعات فلم تُحل المشكلة الفلسطينية الاسرائيلية وبقي الصراع مفتوحا وظلت المنطقة أسيرة النزاعات العربية العربية والعربية الايرانية من جهة، ومن جهة ثانية تحت ضغط الإستبداد، نتج عنه حركات وثورات تحولت فيما بعد إلى حروب طاحنة خرجت عن سيطرة كل القوى السياسية العربية والدولية، وتحول هذا النزاع إلى صراع دولي طال بشرارته وتداعياته الأمن الأوروبي في حين كانت أوروبا تتطلع إلى دور ما لم يتسن لها القيام به نتيجة عوامل سياسية عدة أبرزها :
1. التشتت الأوروبي والعشوائية في مقاربة قضايا الشرق الأوسط واعتماد سياسة الغموض عن قصد أو غير قصد.
2 . التباس الموقف الأوروبي والذي كان أقرب إلى النظرية الميكافيلية وابتعاده عن روح الديمقراطية وأخلاقيات العالم الاول التي نقدر ونحترم.
3 . عدم وجود موقف صارم من أنظمة الإستبداد فبقي الموقف الأوروبي متذبذبا في التعامل مع الواقع والإنحياز إلى الحكام مع إهمال واضح لخيارات الشعوب .
4 . تغليب المصالح الإقتصادية على السياسية.
5 . العزوف عن اللعب في الملعب العربي.
ولعل الإنكفاء الأوروبي عن لعب دور فاعل في الشرق الوسط حاضره ومستقبله، مرده إلى عدم تشكّل الرؤية الواضحة لحد الآن، بالنظر إلى حجم التحديات المفروضة على أوروبا اقتصاديا وسياسيا وعسكريا، فأوروبا ربما تريد أن تكون قوة فاعلة في الشرق الأوسط لكنها في الوقت نفسه تصطدم بنفوذ القوى الأخرى روسيا والولايات المتحدة التي ما زالت تمارس سياسة الإحتواء على أوروبا منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.
وعليه فقد بقيت السياسات الأوروبية غير فاعلة وغير واضحة الأمر الذي دعا الإتحاد الأوروبي، وبعد هذه التحديات الكبيرة إلى إنشاء معهد للدراسات الأمنية وهو عبارة عن مركز للتفكير المستقل يهدف إلى تطوير السياسات الخارجية والأمنية والدفاعية المشتركة بما يتلاءم مع الإستراتيجية الأمنية المعتمدة، ويشمل المعهد بدراساته أفريقيا وآسيا والبحر المتوسط والشرق الأوسط والخليج وروسيا والولايات المتحدة. 
ومع أنّ هذا المركز يقوم في الوقت الراهن بالعمل على إيلاء موضوع الشرق الأوسط الأولوية القصوى لجهة تأثير تداعياته الأمنية على العمق الاوروبي، ومن أهم هذه التداعيات الإرهاب وأزمة النزوح التي تجتاح أوروبا بكاملها.
وقد كان لهذا المركز جملة أعمال تلامس الأزمات المطروحة في تعامل أوروبي جديد مع أزمة الشرق الأوسط لكنه يبقى دون التأثير السياسي على مجريات الأحداث على الأرض .

إقرأ أيضًا: نحمي ونبني العناوين الملتبسة
رغم ذلك لم تتضح الرؤية الأوروبية في مقاربة قضايا وملفات الشرق الأوسط، وبالرغم من كونه مستقبلا غامضا في ظل الأحداث الجارية، إلا أن التعامل السياسي مع هذه المنطقة ما زال دون المستوى المطلوب، ولعل هذا الإنكفاء يعود إلى الرغبة الأوروبية في عدم التصادم مع قوى الأمر الواقع الحالي والمتمثلة بالولايات المتحدة وإيران وروسيا وأحيانا تركيا ويتلخص الدور الأوروبي الحالي تجاه الشرق الأوسط بجملة عناوين:
 
1 . اعتماد سياسة التبعية لقوى الامر الواقع وعلى رأسها الولايات المتحدة الاميركية.
2 . الإهتمام بقضايا الاقصاد كأولوية في المرحلة الراهنة .
3 . عدم فعالية الإتحاد الأوروبي في مقاربة قضايا الشرق الأوسط بمعنى عدم القدرة على التأثير .
وبالمحصلة : فإن الإتحاد الأوروبي يشكو من العناصر التي تحدّ من فاعليته، فهو ما يزال يفتقر الى سياسة خارجية وأمنية مشتركة من جهة، ومن جهة ثانية قد لا يكون العمل تجاه الشرق الأوسط من الأولويات، علما أن الصين الصاعدة تعيد بناء خط الحرير التاريخي لأن المستقبل في نظرهم واعد، ويقول الباحث الفرنسي مونت بريال : "عندما قررت أوروبا التخلي عن سياسات القوة إنما فعلت ذلك لأنها استخلصت العبر من تاريخها المليء بالحروب المدمّرة، فابتكرت نموذج تعايش وتكامل واندماج سلمي تفاخر به وتعتبره قابلاً للتصدير".
وفي جميع الأحوال، فان انشغال أوروبا بجدول اعمال التكامل الضخم والمعقد وتوسيع الاتحاد وتعميقه ومراجعة الخطط والبرامج الاقتصادية والزراعية المشتركة، والاستغراق في الأزمات الداخلية التي سببتها أحداث الشرق الاوسط وتذليل الصعوبات المتوقعة وغير المنتظرة منها واقرار دستور مشترك وغيرها من التحديات، جعلتها في غنى عن خوض النزاعات الخارجية، لا سيما تلك التي لا طائل لها بها، ناهيك عن حاجتها للحفاظ على علاقات جيدة مع الولايات المتحدة لأسباب كثيرة سياسية وعسكرية واستراتيجية، عدا عن الإرتباط الاقتصادي المتبادل . 
 
إن سياسة خارجية أوروبية تولي اهتماما بحق شعوب منطقتنا في الحياة الكريمة في ظل تداول للسلطة قائم على منظومة ديمقراطية أفضل من التغاضي عن مستبدين يحوزون في خزائنهم كل أوراق اللعب فيلعبون مع الغرب لعبة إما أن أبقى وإما أن أفلت عليكم كل بؤر الإرهاب والتطرف الذي يحتفظون به في خزائنهم وبذلك فقط يحفظون أمنهم و يبعدون شبح الإرهاب عن شوارعهم.