كان الأكراد في العراق من بين الأطراف التي دعت إلى تأجيل الانتخابات البرلمانية المتوقعة في مايو المقبل، لكن رفضت المحكمة الاتحادية العليا في العراق هذا المطلب الأمر الذي استوجب مراجعات وتغييرات في السياسة الكردية التي تأثرت بتداعيات استفتاء الانفصال في 25 سبتمبر، استعدادا لعام حاسم سيخوض فيه الأكراد عمليتين انتخابيتين: انتخابات البرلمان العراقي ومجلس المحافظات في مايو وانتخابات برلمان كردستان ورئاسة الإقليم والتي لم يحدد موعدها بعد
 

تبدد حلم مسعود البارزاني بالدولة الكردية المستقلة أواخر عام 2017، بعد الانكسار الذي تحقق نتيجة استفتاء 25 سبتمبر 2017. كان هذا التاريخ مفصليا في مسار التطورات التي شهدها إقليم كردستان العراق منذ 2003، وأساسا في سياق المكاسب التي تحققت منذ إعلان الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية. ومازال هذا التاريخ يلقي بظلاله فيما يستعد العراقيون للانتخابات التشريعية المقبلة، من حيث تأثير مرحلة ما بعد الاستفتاء وخسارة كركوك على التحالفات الحزبية لدرجة تحول الأعداء إلى حلفاء.

كانت دراما مشهد انسحاب مسعود البارزاني قاسية لم تداوها عبارات التبرير “بوجود تواطؤ وخيانة من بعض القوى والأحزاب الكردية وإنه لم يقف معه سوى جبال كردستان”.

ورغم هول الكارثة السياسية لم يطو الأكراد أحلامهم بالحياة ومازالت أحزابهم بكل تنويعاتها تشتغل. هناك إقليم قومي تأسس منذ عام 1991 لم تنهر مؤسساته ومقومات حياته الحكومية والشعبية رغم جسامة الصدمة وتأثيرها السياسي والاقتصادي. وإذا ما غاب مسعود البارزاني من الواجهة السياسية الكردية فإن ابن أخيه نيجرفان البارزاني يزاول فعالياته بكل قوة، بل أصبح أكثر حرية في التعاطي مع آثار نكبة الاستفتاء من خلال موقعه كرئيس وزراء إقليم كردستان.

أهم تلك الآثار السياسية هو تحول الخلافات داخل الأوساط السياسية الكردية إلى قوى ناشطة تجعل من المغازلة مع بغداد وسيلة لتقريب طموحات السلطة والهيمنة وبذل جهود إزاحة المؤسسة البارزانية من الهيمنة على الوضع الكردي.

وعجّل قرب موسمي الانتخابات العراقية العامة وانتخابات كردستان بتجاوز صفحة استفتاء 25 يناير وما صاحبه، ويدفع نحو التركيز على إنشاء التكتلات ومراجعة التحالفات الكردية الداخلية والتحالفات المحلية العراقية وكذلك الإقليمية، فيما صدى صوت قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني وهو يردد الجملة الشهيرة في تهديد القيادة الكردستانية البارزانية “إذا مضيتم في الاستفتاء فإننا سنعيدكم إلى الجبال وبالقوة العسكرية للحشد الشعبي والقوات الأمنية الحكومية”.

حزب الاتحاد الوطني الكردستاني الذي كان دوما شريك الحزب الديمقراطي، فقد وزنه السياسي بعد انشقاق حركة التغيير عنه
أنهت خطوة الاستفتاء عقد الشراكة الإستراتيجية الكردية الشيعية وانتزعت بغداد من أربيل كركوك وتحولت إيرادات مختلف المؤسسات والمعابر والمطارات إلى الإدارة المركزية. ويحاول حيدر العبادي، الذي يخوض سباقا انتخابيا حاميا وصعبا، مواصلة الضغط على قيادة إقليم كردستان لينتزع قرارا واضحا يتجاوب مع مطلب المحكمة الاتحادية العليا بعدم مشروعية الاستفتاء وعدم الاكتفاء بعبارة “نحترم القرار” بل بـ”إلغاء الاستفتاء”، علما بأن تلك العملية قد جرت بآليات شعبية واضحة لا تستطيع القيادة الكردية إلغاءها إلا إذا دعت إلى استفتاء شعبي جديد.

العبادي ونوري المالكي وهما العمادان الرئيسيان للبيت الشيعي يدخلان هذه الأيام معركة الانتخابات ويحاولان التنافس ليس على الساحة الشيعية، بل على التحالف الكردي. يعتقد العبادي أنه يستطيع كسب تأييد قيادات مهمة في حزب الاتحاد الوطني المنقسم بين الولاء لأربيل والولاء للسليمانية بعد خروج نائب أمينه العام برهم صالح بحزب كردي مستقل متحالف مع قيادتي التغيير والجماعة الإسلامية.

نوري المالكي من جانبه وجّه رسائل غزل لقيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني في مقابلة تلفزيونية مع قناة كردية وصفت بالغريبة، خصوصا أن المالكي سبق أن نادى “بمحاسبة مسعود البارزاني على خيانته وتسهيله مهمة داعش في العراق”.

لكن، في المقابلة الأخيرة، طالب المالكي بكسر الجمود في العلاقات مع الإقليم، وقال إنه “لم يبقَ أي مبرر لعدم العودة إلى الدستور والبدء بالحوار وفتح صفحة جديدة. ويجب أن يبدأ الحوار على خلفية الشعور المشترك بالعلاقات والأخوة والشراكة الوطنية التي تجمعنا، أما تأجيلها إلى ما بعد الانتخابات، فوضع الإقليم لا يتحمل، ويجب إجراء مراجعة سريعة لوضع الإقليم قبل فوات الأوان، والحكومة المركزية تستطيع أن تساعد الإقليم لمواجهة التحديات ولكن على الإقليم أيضا أن يتقدم نحو الحكومة المركزية وأن يتفاعل معها وفق السياقات الدستورية“، وهو كلام مبطن لنقد سياسة العبادي المتشنجة تجاه أربيل.

معالم الخارطة الكردية تتوزع بين الحزبين الرئيسيين؛ الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني إلى جانب دور ملحوظ لحركة التغيير.

الحزب الديمقراطي الكُردستاني يعتبر نفسه قُطبا في الحياة السياسية الكُردستانية، فهو إلى جانب اعتماده على إرث العائلة البارزانية، فإنه حزب السُلطة مُنذ أكثر من ربع قرن، وبالذات في مُحافظتي أربيل ودهوك، حيث تخضع الأجهزة الإدارية والعسكرية والأمنية والاقتصادية لإرادته في تلك المناطق، وطبعا أكثر من نصف مجموع قوات البيشمركة.

كذلك فإن علاقة الحزب الخاصة بالتيارات الممثلة للأقليات المسيحية واليزيدية في الإقليم وكامل العراق، تمنحه قوة رمزية وتشريعية مُضاعفة، لأن ثمة العديد من القضايا التي لا يُمكن تشريعها من دون توافق مع هذه الأحزاب والتيارات المرتبطة عضويا بالحزب الديمقراطي الكردستاني.

الأكراد فقدوا ورقة الصداقة والدعم الدولي والأميركي وغاب حلمهم بقيام دولتهم لزمن ليس قصيرا ويجدون أنفسهم اليوم وحيدين إلا برصيدهم النضالي
ويعتقد ساسة الحزب الديمقراطي الكُردستاني أن كُل تلك المداخل، تمنحه قوة انتخابية تسمح له بإحراز أغلب المقاعد البرلمانية في إقليم كردستان والمناطق المُتنازع عليها، وكذلك على الساحة الانتخابية العراقية رغم إعلانه الأخير بعدم خوض الانتخابات في كركوك وأن ذلك سيمنحه القدرة على استقطاب الكثير من الكتل البرلمانية الكردية الأصغر في ما بعد، وبذلك يغدو من الكتلة البرلمانية الكردية التي لا يمكن تجاوزها في البرلمان العراقي.

أما حزب الاتحاد الوطني الكُردستاني الذي كان دوما شريك الحزب الديمقراطي، فإنه فقد الكثير من وزنه السياسي بعد انشقاق حركة التغيير عنه، كما سادت بعض الخلافات على وقع عملية إعادة انتشار القوات الأمنية العراقية في كركوك في أكتوبر الماضي، في ما قيل عن اتفاق جناح من الحزب مع بغداد دون علم الأجنحة الباقية.

وتضاعف ذلك في الفترة الأخيرة مع انشقاق نائب الأمين العام للحزب برهم صالح وتأسيسه لـلتحالف من أجل الديمقراطية والعدالة.

لكن، رغم ذلك يعتقد الحزب أنه لا يزال يُسيطر على الحياة الاقتصادية والإدارية والعسكرية بشكل شبه مُطلق في مُحافظتي السُليمانية وحلبجة وبعض مناطق مُحافظة أربيل. لذلك فإنه يستطيع أن يُحرز مقاعد انتخابية تتجاوز كافة التوقعات التي تعتقد أنه سيفقد حضوره البرلماني بشكل شبه مطلق، وأنه سيعيد المفاجأة التي حققها في انتخابات عام 2014، حينما أحرز أغلب مقاعد محافظة كركوك، وتجاوز خسارته على مستوى الانتخابات البرلمانية في إقليم كردستان. ويعتقد الاتحاد أن ذلك أفضل من أن يدخل في تحالف انتخابي من موقع الضعيف، والذي سوف يفقده الكثير من وزنه السياسي بشكل شرعي.

وتتمركز حركة التغيير في الأساس بمحافظة السليمانية وبعض مناطق محافظة أربيل، وهي مُتهمة من قِبل الحزبين الرئيسيين بأنها حركة شبه انقلابية، لا تُريد أن تحافظ على مبدأ التوافق بين الأحزاب الكُردية التي حافظت على العملية السياسية في الإقليم منذ تأسيسه.

ويعيش الأكراد في حالة من التيه في مركب أشرعته لم تحدد بوصلته مع من يتحالف؛ هل مع المالكي الذي يعتقد أنه قادر على اللعب بالورقة الكردية أم مع العبادي الخصم اللدود لقيادة الكردستاني أم مع القيادات السنية التي تشرذمت وتشتتت؟، فيما تبقى العلاقة مع طهران غامضة.

فقد الأكراد ورقة الصداقة والدعم الدولي والأميركي وغاب حلمهم بقيام دولتهم لزمن ليس قصيرا ويجدون أنفسهم اليوم وحيدين إلا برصيدهم النضالي القومي التاريخي، وهذا ما يمنحهم جرعة لامتناهية من الحياة.