شهدت إيران تغيرات اجتماعية وسياسية في السنوات الأربعين الماضية، قبل أن تصبح اليوم لاعبا رئيسيا في الشرق الأوسط، وتزعزع النظام الإقليمي لهذه المنطقة، فكيف تم ذلك؟
هذا ما حاول المدير الفخري لقسم البحوث في المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية برنار هوكاد الرد عليه في مقال مطول بدورية لوموند ديبلوماتيك.

فالدولة الإيرانية الحديثة -حسب الكاتب- تأسست في القرن 16 كدولة شيعية، غير أن الحكام البهلويين همشوا الدين لصالح السياسة، قبل أن تسقطهم الثورة الإيرانية بقيادة آية الله الخميني عام 1979.

الأرخبيل الشيعي
ويرى هوكاد أن ثورة الخميني أدركت منذ البداية أنها لا بد من أن تأخذ في الحسبان العدد الهامشي للشيعة في هذا المحيط السني العارم، فاتكأت في دعايتها على التأكيد على وحدة الأمة الإسلامية ككل، من أجل تصدير قيم ثورتها، واصطفت منذ الوهلة الأولى إلى جانب المعارضة الراديكالية لإسرائيل  كوسيلة لكسب التعاطف في العالم الإسلامي.

وفي هذا السياق، أنشأت طهران حزب الله اللبناني ليكون حليفا دائما لها في لبنان، وذلك كفاعل سياسي رئيسي في بلد عربي وكقوة مسلحة قادرة على اتخاذ إجراءات عسكرية أو غير تقليدية، وكذلك بوصفه رأس الحربة لجبهة رفض إسرائيل.

وبدأت هذه الإستراتيجية تؤتي أكلها عندما جعل الحزب حدا للاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان في مايو/أيار 2000، وشارك في الحكومة اللبنانية عام 2005، واضطلع بدور مركزي في الحرب في سوريا.

لكن تلك الإستراتيجية لم تنجح مع شيعة الكويت والبحرين والسعودية، فإن كانوا استفادوا من دعم إيران الثورية، فقد نأوا بأنفسهم عنها بعد أن أضعف تدخلها تحالفهم مع قوى أخرى ببلادهم في إطار معارضة وطنية غير طائفية.

أما في أفغانستان، فقد دأبت إيران دائما على دعم الشيعة الهزاره، وتزويدهم بالتدريب الديني أو العسكري، وكذلك المساعدات الإنسانية، في بيئة لا تزال متقلبة، وقد وفر الشيعة في كل من أفغانستان وباكستان أعدادا من عناصر المليشيات التي استخدمتها طهران، خاصة في القتال بسوريا.

أما اليمن، فلم تكن الأقلية الزيدية على علاقة مع إيران الشيعية، ولكن التمرد الحوثي الذي وحد الطرفين ضد المصالح السعودية، وفر لإيران فرصة لمواجهة سياسات السعودية في المنطقة.


برنار هوكاد: حزب الله جناح إيران العسكري والسياسي بلبنان (رويترز)
أما علاقة طهران مع العراق فهي من طبيعة أخرى مختلفة كليا، إذ إن مدينتي النجف وكربلاء العراقيتين، وليست قم أو مشهد، هما اللتان تحويان أهم المدارس والأماكن المقدسة للشيعة، كما يتجلى التنافس بين الشيعة الفارسيين والعرب في العداء التقليدي بين الدولتين الإيرانية والعراقية، ولكن على وجه الخصوص، في معارضة آية الله علي السيستاني -المؤثر جدا في العراق- للمذهب الشيعي الإيراني الذي يقوم على ولاية الفقيه.

كما يصطدم الوجود الإيراني بالعراق بالقومية العراقية القوية، وريثة قرن من الاستقلال والمركزية لحزب البعث، التي عززتها ثماني سنوات من الحرب بين البلدين (1980-1988).

بالنسبة لسوريا لا وجود للشيعة تقريبا، غير أن العلويين أصبحوا يسمون أنفسهم ويوصفون رسميا بالشيعة منذ عهد الرئيس السوري السابق حافظ الأسد (1971-2000) ولتوطيد التحالف بين دمشق وطهران.

وتكتسب العلاقات مع أرخبيل الشيعة أهمية في سياق التنافس المتفاقم ين إيران والمملكة العربية السعودية، القلقة من نفوذ طهران المتجدد، واستفادت إيران -دون أن تسعى إلى ذلك- من سياسة التدخل الأميركي في المنطقة، والإطاحة بحركة طالبان الأفغانية عام 2001 وسقوط صدام حسين عام 2003، ناهيك عن هزيمة الجهاديين ومطاردتهم في كل مكان.

ففي نظر الإيرانيين، ترمز الرياض إلى غطرسة الأنظمة الملكية التي استفادت من تهميش إيران منذ عام 1979 لبناء إمبراطورية اقتصادية وإعلامية وسياسية تفرض هيمنتها في جميع أنحاء المنطقة بدعم غير مشروط من الدول الغربية، وهو ما تقول إنها تتصدى له بكل ما أوتيت من قوة.

 الحرب الباردة
صحيح أن بإمكان الجمهورية الإسلامية الإيرانية في حربها الباردة مع المملكة العربية السعودية أن تعتمد على أرخبيل من الشيعة أو الأقليات المماثلة، وصحيح أنها تمكنت من تقديم دعم حاسم لحلفائها، خاصة في مقارعة الجهاديين في سوريا والعراق، لكن مصدر التنافس بين إيران والسعودية يبدو سياسيا أكثر منه عرقيا أو دينيا، على حد تعبير هوكاد.

واستعرض الكاتب في هذا الإطار قصة انتصار الحرس الثوري الإيراني في كل من سوربا والعراق، قائلا "مع تدخل الحرس الثوري في سوريا والعراق انتصرت إيران، وللمرة الأولى في تاريخها الحديث، بمعركة عسكرية خارج حدودها"، نصر وصفه قائد لواء القدس بالحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني بأنه "حاسم".

ذلك النصر العسكري الذي يُضاف إلى نصر دبلوماسي آخر كبير حققته طهران في 14 يوليو/تموز 2015 عندما وقعت مع القوى العظمى الست اتفاقا بشأن برنامجها النووي؛ يفترض أن يمكن البلد من الخروج من عزلته الدبلوماسية والتجارية.

لكن هيهات هيهات؛ فإيران لم تستفد كثيرا من هذه الانتصارات، ولم تحقق الانتعاش الاقتصادي الذي كانت تنشده، بسبب اعتراض الرئيس الأميركي دونالد ترمب على رفع العقوبات بصورة نهائية عنها، مما يعني أن الوضع الحالي لإيران، بعد ما يقرب من أربعة عقود من الهدوء والاحتواء والحظر الدولي والتهديد بالحرب، هو أنها لا تزال بعيدة عن الاعتراف بها كقوة إقليمية "طبيعية"، حسب الكاتب.