من يهاجم نبيه بري ولا يتعرض لـ'حزب الله' وسلاحه غير الشرعي، لا يحق له الكلام في السياسة ولا إعطاء رأي في الأحداث الداخلية أو الإقليمية أو الدولية
 

قبل كلّ شيء، ينمّ كلام وزير الخارجية اللبنانية جبران باسيل عن رئيس مجلس النواب نبيه برّي عن سطحية ليس بعدها سطحية، فضلا بالطبع عن الجهل في التركيبة القائمة في لبنان.

تقوم هذه السطحية على استثارة الغرائز الدينية، لعل ذلك يفيد “التيار الوطني الحر” الذي يرأسه جبران باسيل في الانتخابات النيابية المقبلة المقرر أن تجري في شهر أيّار – المقبل.

لا حقوق للمسيحيين ولغير المسيحيين يمكن أن يؤمنها الدخول في حلف الأقليات بزعامة “حزب الله” الذي يشارك في الحرب على الشعب السوري. من يسعى إلى أن يكون نائبا أو وزيرا عبر مثل هذا الكلام لا يعرف أن النيابة والوزارة لا تصنعان سياسيين، أو على الأصح لا تصنعان رجالا.

في تلك القرية المسيحية في قضاء البترون، قال جبران باسيل الحقيقة. قال ما يؤمن به. ظهر عاريا أمام اللبنانيين الذين فوجئوا بمدى تعصّبه وغياب أي رؤية ذات طابع وطني لديه. لم يخرج باسيل بعد من عقدة المسيحي المظلوم المنتمي إلى الطبقة دون المتوسطة، الباحث دائما عن طرف يلقي عليه مسؤولية تقصيره وقصر نظره السياسي.

لعلّ أخطر ما في أشخاص مثل جبران باسيل تلك القدرة على رفض التعاطي مع الواقع والاعتقاد أن التذاكي، من نوع الاحتماء بـ“حزب الله”، يمكن أن يجعل منه مواطنا من الدرجة الأولى في لبنان.

تبيّن بكل بساطة كم أن التحالف بين “التيّار الوطني الحر” و“حزب الله” هشّ ومخالف للطبيعة في الوقت ذاته. هل أوصل “حزب الله”، الذي أغلق طوال ما يزيد على سنتين مجلس النواب، ميشال عون إلى قصر بعبدا كي يستعيد المسيحيون حقوقهم، أم من أجل أن يأخذوا حجمهم الحقيقي كثلث عدد مواطني لبنان؟

ثمّة حلقتان مفقودتان في كلام جبران باسيل الساعي إلى أن يكون زعيما مسيحيا في لبنان من دون استيعابه لمعنى الزعامة ومقوماتها.

هناك حلقة أولى مفقودة تعود إلى التجاهل التام لـ“حزب الله” ودوره في إلغاء المؤسسات اللبنانية عن طريق تعطيل دور كل منها، بما في ذلك دور رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النوّاب ورئاسة مجلس الوزراء.

من يهاجم نبيه بري ولا يتعرض لـ”حزب الله” وسلاحه غير الشرعي، لا يحق له الكلام في السياسة ولا إعطاء رأي في الأحداث الداخلية أو الإقليمية أو الدولية. من يتجاهل، على سبيل المثال فقط، خطورة زيارة قام بها قيس الخزعلي، وهو زعيم ميليشيا مذهبية إيرانية، إلى جنوب لبنان والتصريحات التي أدلى بها، لا يحق له الكلام لا عن نبيه بري ولا عن أي زعيم لبناني آخر.

ما قيمة وزير الخارجية اللبنانية إذا لم يكن يستطيع رفع صوته عندما يخرق زعيم ميليشيا عراقية كل القوانين المتعارف عليها في العلاقات بين الدول ويدخل لبنان ويخرج منه بطريقة غير قانونية؟ أين حقوق اللبنانيين، بكل طوائفهم، عندما يعتدي “حزب الله” الذي ألغى الحدود مع سوريا على السيادة اللبنانية في كل ساعة وكل يوم؟

أقل ما يمكن أن يوصف به كلام جبران باسيل في قرية محمرش البترونية أنّه كلام رخيص يستخفّ بذكاء اللبنانيين، خصوصا المسيحيين منهم. ليس بمثل هذا الكلام يصبح المرء نائبا.

يهاجم جبران باسيل رئيس مجلس النواب بحجة أنه أغلق المجلس ولم يمرر قوانين معينة بقيت في الأدراج. لا حاجة إلى مناقشته في من أغلق المجلس ولماذا أغلق المجلس وكيف انتخب ميشال عون رئيسا.

يمكن الاكتفاء بالإشارة إلى أن تجاهل مشروع الإنماء والإعمار الذي نفذه رفيق الحريري بين العامين 1992 و2005 ليس سوى تعام عن الحقيقة وتعصّب طائفي مقيت وجهل وجهالة في أحسن الأحوال.

أما الحلقة الثانية المفقودة في كلام باسيل، فهي تلك المرتبطة بشخص نبيه برّي. يمكن أن يحب اللبناني نبيه برّي كما يمكن أن يكرهه. لكن الثابت أن الرجل أثبت أنه من السياسيين الدهاة وذلك منذ خلف الرئيس حسين الحسيني، الرجل اللبناني الأصيل الذي ينتمي إلى فئة مختلفة من رجال الدولة الذين عرفهم لبنان، على رأس حركة “أمل” ثم على رأس مجلس النوّاب.

هناك مثلان صغيران يعطيان فكرة عن السياسي الذي اسمه نبيه برّي. الأول حرب المخيمات التي خاضتها حركة “أمل” وأبلت فيها البلاء الحسن بناء على طلب سوري.

تفوّقت “أمل” في تلك الحرب في منتصف ثمانينات القرن الماضي على الميليشيات المسيحية التي قاتلت الفلسطينيين في لبنان. على الرغم من ذلك، خرج نبيه برّي بعد تلك الحرب يعطي دروسا في الوطنية للفلسطينيين ولغيرهم… فيما وُصف زعماء الميليشيات المسيحية بأنّهم مجرّد “عملاء لإسرائيل”.

المثل الصغير الآخر الذي يعطي فكرة عن قدرة نبيه بري على التكيف، هو حرب إقليم التفاح مع “حزب الله” في أواخر ثمانينات القرن الماضي. سقط في تلك الحرب الشيعية – الشيعية والسورية – الإيرانية التي انتهت بانتصار “حزب الله”، أي بانتصار إيراني على النظام السوري، الآلاف من أبناء الطائفة الشيعية. لم يمنع ذلك نبيه بري من التقاط أنفاسه واستعادة مواقعه والمحافظة عليها. كان ذلك عائدا إلى قدرته على المناورة وإلى الدعم الذي كان يوفّره له النظام السوري برئاسة حافظ الأسد وقتذاك.

بعض التواضع ضروري بين وقت وآخر. يقضي التواضع بالاعتراف بمواهب نبيه برّي وبأنّه ليس سياسيا عاديا بأيّ مقياس. لذلك، من المعيب أن يتحدث سياسي مبتدئ لا يمتلك أي خبرة من أي نوع في أي ميدان من الميادين عن “تكسير رأس” رئيس مجلس النواب.

هذا ليس كلاما مسيئا لصاحبه فحسب، بل يعطي أيضا فكرة عن حال من الغرور كانت وراء تهجير المسيحيين في لبنان على دفعات. من يتذكّر أن أكبر عدد من المسيحيين هاجر في العامين 1989 و1990 عندما خاض الرئيس ميشال عون حربيْ “الإلغاء” و“التحرير” في أثناء وجوده على رأس حكومة موقتة في قصر بعبدا؟ من يتذكّر كلام عون وقتذاك عن “تكسير رأس” حافظ الأسد وماذا كانت نتيجة هذا الكلام؟

في النهاية، لعب نبيه برّي أدوارا كبيرة وأساسية، بل محورية، في السنوات الأربعين الأخيرة من تاريخ لبنان. يكفي أنّه تكفل في السادس من شباط – فبراير 1984 بشلّ عهد الرئيس أمين الجميل وإخراج الجيش اللبناني من بيروت الغربية. كان ذلك اليوم المشؤوم بداية تغيير للتركيبة الديموغرافية للعاصمة، وبداية النهاية لبيروت المزدهرة التي كان شارع الحمراء أحد أبرز معالمها والتي سعى رفيق الحريري إلى إعادة الحياة إليها قبل تفجير موكبه في مثل هذه الأيام قبل ثلاثة عشر عاما.

ليس نبيه بري سياسيا عابرا بأيّ شكل. إنّه جزء لا يتجزّأ من تركيبة لبنانية ولدت بعد حرب السنتين (1975 و1976). تبدو هذه التركيبة مقبلة على تحولات كبيرة في حال لم يحدث طارئ يؤدي إلى تأجيل الانتخابات النيابية التي موعدها في أيار – مايو المقبل.