عندما سخِر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من «غباء» إدارة ترامب لاتّخاذها «خطوة عدائيّة» بتسليطها هذا الأسبوع سَيف العقوبات على 114 سياسياً روسياً و96 «أوليغارشياً» مقرّبين من بوتين، لم يَنتهِ الأمرُ بحرق شوارع أميركية أو بالتّلويح بحربِ شوارع بين روسيا وأميركا وإنّما اتَّسم بالحكمة المدروسة حفاظاً على العلاقات الثنائية والمصلحة العليا لكلّ من البلدَين. قال بوتين إنّ «هذا عملٌ غيرُ ودّي» و»كنا ننتظر اللائحة، ومستعدّين لاتّخاذ خطوات انتقاميّة جدّية، ما من شأنه أن يُقلّص علاقاتنا الى صفر». وتابع «في الوقت الراهن، سنَمتنع عن اتّخاذ هذه الخطوات، لكنّنا سنُراقب بدقّة تطوّرَ الوضع». بالمقارنة، وعندما تجاوز وزير الخارجيّة اللبنانية جبران باسيل الأصولَ الديبلوماسية واصفاً رئيس البرلمان نبيه بري بـ«البلطجي» في جلسة مغلقة، انطلق رجال حركة «أمل» بسيّارات مدنيّة تُرافقها الدراجات النارية في ساحة منطقة «الحدث» ليُطلقوا النار في الهواء ويرفعوا صور الرئيس بري مكتوباً عليها «مارد البرلمان». كلا التصرّفين يسلب أهل الحكم في لبنان استحقاقات الجدّية ويُساهم في ترسيخ الانطباع العالمي عن لبنان بأنّه بلد مركّب أقرب الى تعبير «التفنكه» أي «البدعة المتحايلة» أو ما يُعرَف بالـ Gimmick.
الأمر مضحك لو لم يكن بهذه الدرجة من الخطورة التي تُهدِّد بتشابك بين المسيحيّين والشيعة قد يُشعِل البلد. الصبيانية عرَّت الادّعاءات بالحكمة والقيادة سيّما وأنّ المعارك السياسيّة بين الفريقين امتدَّت من بيروت الى أبيدجان في مزايدات قد تبدو للبعض هزليّة لكنّها في الصّميم في غاية الدقّة في حسابات التّحالفات بين الأقطاب الحاكمة، أو عدمها. فقط وزير الدفاع الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان تمكّن من احتواء تداعيات المواجهة الداخليّة وذلك عندما اعتبَر المناقصة اللبنانية للتنقيب عن النفط والغاز في منطقة على الحدود البحرية بين البلدين عملاً «استفزازياً جداً». أدّى ذلك الى اختراق التشنّج والى توحيد الرّد اللبناني في الإصرار على حقّ تلزيم البلوك رقم 9 في الجنوب الى كونسورتيوم من 3 شركات عالميّة والإصرار على ممارسة السيادة اللبنانيّة في المياه الإقليمية والحق بالدفاع عن النفس. وزير النفط قال إنّ «لبنان قام بترسيم حدوده البحريّة وفقاً للقوانين الدولية وسيستعمل كلّ الوسائل لحماية نشاطاته البترولية». أما «حزب الله» فإنّه أكّد استعدادَه لـ«التصدّي الحازم لأيّ اعتداء على حقوقنا النفطيّة والغازية والدفاع عن منشآت لبنان». كلّ هذا في خضمّ ازدياد الحديث عن حربٍ إسرائيلية مقبلة ليس معروفاً إن كان كلاماً جدّياً أو كجزء من معادلات التخويف والإخضاع والمناورات السياسية. المعروف والواضح هو أنّ التصعيد الذي انطلق من تسريب كلام جبران باسيل له خلفية أعمَق من الانطباع وهي ذات علاقة بصلاحيّات الحكم الموزَّع على ثلاث رئاسات، وبامتيازات أحزاب وأفراد، وبتحالفات في الإنتخابات النيابية المقبلة، وبعلاقات للأطراف اللبنانية مع أطراف إقليمية ودوليّة أبرز عناوينها هو: مستقبل التحالف المسيحي مع الثنائي الشيعي في لبنان.
وزير الخارجية الذي يرأس حزب «التيار الوطني الحر» التابع لرئيس الجمهورية ميشال عون حريص جداً على عمّه، أب زوجته، ويُحسن قراءة ما في ذهنه. والرئيس عون يكنّ الإعجاب لصهره باسيل بما يشابه إعجاب الرئيس دونالد ترامب بصهره جاريد كوشنر. باسيل هو مهندس أساسي في العلاقة التحالفيّة بين «التيار الوطني الحر» وبين «حزب الله»، وأيضاً مهندس العلاقات الجديدة بين «التيار الوطني الحر» وتيار «المستقبل» عبر علاقات مميّزة بينه وبين نادر الحريري رئيس مكتب رئيس الوزراء سعد الحريري.
المعركة السياسية بدأت بين رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه برّي، رسمياً بسبب مرسوم الأقدميّة لضباط دورة 1994 في الجيش اللبناني. واقعياً إنّ المعركة هي على نوعية الصلاحيات لكلّ من الرئاستين. معسكر عون يُصرّ على صلاحيات الرئيس القوي يراها معسكر برّي بأنّها تعكس نزعة الإمبراطور لدى عون. ومعسكر برّي يتمسّك باتّفاق الطائف الذي يُوزّع صلاحيات الرئاسات الثلاث: رئاسة الجمهورية (ماروني)، رئاسة مجلس النواب (شيعي) ورئاسة الحكومة (سنّي).
طيّات التحالفات والمواجهات عبَرت محطة تعديلات طالب بها جبران باسيل على قانون الإنتخابات النيابية المزمَع عقدها في 6 أيار لم يتمكّن من تمريرها. فكانت هذه المحطة الثانية بعد الأولى المتمثّلة بالخلاف الرئاسي على المرسوم والصلاحيات. مع الوصول الى المحطة الثالثة حيث استخدَم باسيل تعبير «البلطجي» في وصفه برّي أثناء لقائه القاعدة الشعبية المسيحية المهمّة له انتخابياً، كان واضحاً أنّ وزير الخارجية اعتزم إيصال ما لديه الى رئيس البرلمان، وإلّا لما تحدّث بهذه اللغة أمام مجموعة كبيرة من الناس حتى وإن كان في جلسة مغلقة. والسؤال هو: لماذا؟
البعض يقول إنّ جبران باسيل توقّع أن يُسرع «حزب الله» الى الوقوف بجانب حركة «أمل» على أساس أولوية «الثنائية الشيعية» قبل أيّ تحالفات أخرى، وهو أراد استدراجَ الافتراق والفراق مع «حزب الله» في المرحلة الإنتخابية كمقدّمة لفكّ الترابط الاستراتيجي مع «حزب الله». فالبقاءُ في تحالفٍ معه سيكون مكلفاً لأنّ إدارة ترامب عازمة على عقوبات صارمة وإجراءات لها جوانب تورّط حلفاء «حزب الله» بتداعيات سياسية واقتصادية ومالية. ثم إنّ الدول الخليجية أوضحت أمرها مع القوى المسيحية في لبنان على أساس أنّ استمرار التحالف المسيحي - الشيعي على نسق العلاقة بين «التيار الوطني الحر» و«حزب الله» هو في رأيها شراكة مع «حزب الله» ومشاريعه ضدّ المصالح الخليجيّة في المنطقة أجمع.
بكلامٍ آخر، إنّ الدول الخليجية مصرّة على عدم التّصديق على تقديم أيّ طرف لبناني الغطاء لـ«حزب الله»، إذا كان ذلك الطرف هو الشريك السنّي أو اللاشريك المسيحي. جزءٌ من الأزمة السعودية مع سعد الحريري كانت له علاقة بناحية الغطاء. واليوم، هناك محاولة لبناء علاقة معزَّزة مع المسيحيّين كشركاء شرط ألّا يكونوا جزءاً من الغطاء لـ«حزب الله». الطرف المسيحي المتحالف مع «حزب الله» هو رئيس الجمهورية ووزير خارجيّته. والسؤال هو: هل طرأ تغييرٌ على تفكير وفكر عون وباسيل لدرجة إعادة النظر في هذا التحالف؟ أو هذه مرحلة عابرة من تداعيات الإختلافات مع حركة «أمل» يتفهّمها «التيار الوطني الحر» على أساس اضطرار «حزب الله» لوَضع «الثنائية الشيعية» في أولويّة موازينه أقلّه عاطفياً وتضامنياً؟ أم إنّ الحسابات اختلفت جذرياً في الطريق الى الإنتخابات النيابية حيث تُريد «الثنائيّة الشيعية» أن تكون لها القدرة على تعطيل القرار في مجلس النواب وأن تكون لرئيس البرلمان الحالي ضمانات الاستمرار في منصبه لأنّه يُريد إبقاءَ مفتاح البرلمان في يده؟
إقليمياً ودولياً، إنّ القرارَ ليس بتفجير لبنان أمنيّاً لكنّ صمّام الأمان أو زناد الفلتان يبقى لبنانياً بإمتياز. هناك اهتمام بالإنتخابات النيابية، وبالتحالفات في لوائح المرشّحين لا سيّما وأنّها مدهشة في فظاعة إصرار المؤسّسة الحاكمة على أنماط اقتسام النّفوذ والمصالح على أساس النظام الإقطاعي والطموحات الشخصية. هناك قرارات دولية وإقليمية تتعلّق ليس فقط بـ«حزب الله» وإنّما أيضاً بالقطاعات المصرفيّة وغيرها هدفها إبراز جدّية قرار التصدّي لـ«حزب لله» ولمَن يَحميه.
إسرائيل دخلت الخطّ عبر مزاعم ليبرمان بأنّ نفط البلوك 9 ملك لإسرائيل وليس للبنان. كلامُه عن فتح الباب للامتياز بأنّه «يُمثل تحدّياً سافراً وسلوكاً استفزازياً لنا» خارجاً عن الأصول كما تهديداته للشركات الروسية والإيطالية والفرنسية التي تُقدّم العروض في المناقصة.
فمسألة الحدود البحريّة مطروحة رهن «المساعي الحميدة» للأمين العام للأمم المتحدة منذ آذار 2016 ليس ليقوم بمسعى ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل وإنّما كي يحلّ الخلافات بينهما حول الملكية البحرية. فلقد قدَّم لبنان عام 2010 حيثيات قال على أساسها إنّ هذه هي حدوده البحرية، لكنّ إسرائيل اعترَضت. مرّت المساعي بعهد بان كي مون وهي الآن في عهد أنطونيو غوتيريس الذي يجب أن يُسرع الى مضاعفة مساعيه الحميدة كي لا تفلت الأمورُ باتّجاه مواجهات أمنيّة.
فلتان الأمور دائماً وارد في بلد على هشاشة لبنان. لذلك إنّ الحكمة واجبٌ، والتملّص من المسؤوليّة تحت ذريعة لامسؤوليّة حركة «أمل» عن فلتان أتباعها أمنياً مرفوض تماماً. مرفوض أيضاً أن يُعطيَ كبيرُ الديبلوماسيّين لنفسه الحقّ بتجاوز الأعراف الديبلوماسية لغاياته السياسية، شخصيّةً كانت أو باسم صلاحيّات الرئاسة.