ليس المهمّ أن يعتذر الوزير جبران باسيل أو لا يعتذر. وسواء أعتذر أم لم يعتذر فإن الدهر لن يصلح ما أفسده العطّار، وأن الجرّة عندما تنكسر لا تعود تنفع معها لملمة الشتات، بل المهم أن تصفى النيات والمقاصد
 

ما حصل في منطقة الحدث بالأمس وقبله في الجديدة خطير جدًا، وقد يدفع البلاد إلى حافة فتنة لها أول وليس لها آخر، مع ما تعنيه من تأجيج للنفوس وتجييش للشعور الطائفي البغيض، الذي بدأ يطّل برأسه نتيجة خطأ كبير، ولكنه يصبح صغيرًا أمام ما قد يقود إليه تفلت الأمور من عقالها إلى تطورات خطيرة على الأرض، في وقت يطالعنا وزير حرب العدو بنظرية همايونية لم تكن لتخطر على باله لو كانت الساحة اللبنانية متراصة وموحدة لمواجهة مطامع ليبرمان وسواه.

معروف عن الرئيس نبيه بري أنه من أصحاب نظرية أن ليس في السياسة عداوة دائمة ولا صداقة دائمة، بالطبع من دون الدخول في الأمور التي تباعد بينه وبين الوزير جبران باسيل، وهي كثيرة، على ما يعتقد كثيرون.

فمنذ أن وعى اللبنانيون على الحياة السياسية، ومنذ مؤتمري جنيف ولوزان، وصولًا إلى كل المراحل التي مرّت على لبنان، بحلوها ومرّها، وهم يسمعون بإسم "الإستاذ"، الذي تشّبع من تعاليم مدرسة الإمام المغيّب سماحة السيد موسى الصدر، الذي كان سبّاقًا في فلسفة صيغة العيش الواحد بين اللبنانيين وإعطائها بعدًا حضاريًا تلاقى فيه، من دون أن يلتقيه، ولو بعد سنوات، مع البابا يوحنا بولس الثاني الذي أكتشف بعد إختبارعميق بأن لبان ليس بلدًا عادّيًا كسائر البلدان في الخارطة الجغرافية، بل هو وطن الرسالة، التي يؤمن بها الرئيس بري فعلًا لا قولًا، وقد أصبح مضرب مثل في حرصه على المسيحيين كحرصه بالقدر ذاته على المسلمين، بإعتبارهم مكمّلين لبعضهم البعض، أدوارًا ورسالة وصيغة تُحتذى.

يعرف كثيرون كم آلمه مشهد حرق الدواليب في أكثر من منطقة، وبالأخص في منطقة الجديدة، حيث المنسقية العامة لـ"التيار الوطني الحر"، وبالأمس في الحدث، وهي على بعد أمتار من القصر الجمهوري، ويعرفون كم بذل الرئيس بري من جهود لإقناع المتحمسين لكي يخرجوا من الشوارع، وهو صاحب نظرية أن مقابل كل شارع هناك شارع، وأن الأمور لا تعالج بهذه الطريقة الإستفزازية، التي تسيء إلى رمزية ما يؤمن به وإلى التاريخ وحتى إلى المستقبل، إذ لا مناص للبنانيين من العيش معًا، أيًّا تكن الصعوبات.

فلا الثنايات تبني بلدًا ولا حتى الثلاثيات. فما يبني هذا البلد هي تلك الوحدة النابعة من قناعات مشتركة غير قابلة للإهتزاز موسميًا وعند كل إمتحان، ولا يجوز بالتالي نسف ما أختبره اللبنانيون طوال سنوات أعقبت الحرب القذرة بليلة واحدة وباللجوء إلى الشارع كشكل من أشكال التعبير عن سخط مبّرر، وكان ممكنًا الإستعاضة عنه بما يضمن عدم تكرار الخطأ، ولكن ليس على طريقة "داوني بالتي كانت هي الداء"، وبالتالي لا تكون معالجة الخطأ بخطأ آخر.

فالشارع سلاح ذو حدّين، خصوصًا أذا ما أستخدم بعشوائية، وذلك خوفًا من أن تفلت الأمور من أيدي الكبار، بحيث لا تعود تنفع المعالجات بـ"تبوييس اللحى"، وخوفًا من دخول أكثر من طابور خامس على خط التوترات وفوضى الشوارع، فيختلط الحابل بالنابل وتضيع الطاسة... وقد تضيع فرصة الإنقاذ!

 

 

اندريه قصاص