لن أناقش في هذه العجالة على من تقع المسؤولية الدستورية والقانونية لعدم الاتفاق بين الرئيسين عون وبري في شأن مرسوم ترقية الضباط في الجيش. 

لن أناقش أيضاً ما اذا كانت الدعوة الى مؤتمر الطاقة الاغترابية في أبيدجيان هي قرار حكومي أو مبادرة فردية من وزير الخارجية جبران باسيل. او ما اذا كان حضّ رئيس السلطة التشريعية على مقاطعة مؤتمر دعا إليه وزير في السلطة التنفيذية، يمكن اعتباره سلوكاً دستورياً.

لن أعود أيضاً وأيضاً الى قواعد التعاطي السياسي واخلاقياته، لتقييم وصف الوزير باسيل للرئيس بري بـ"البلطجي" وردود فعل مناصري حركة "أمل" على هذا الوصف في الشارع وفي الوسائل الإعلامية.

أفضّل التساؤل في المقابل عن اسباب هذا الصراع السياسي القديم- الجديد والمتمادي بين الرئيس عون وتيّاره من جهة، والرئيس بري وحركة "أمل" من جهة ثانية.

التفتيش عن الأسباب هنا ليس بدافع الفضول البحثي فحسب. بل لأن هذا الصراع أدى حتى الآن إلى تعطيل انتخابات الضمان الاجتماعي، وهو سيعطل على الأرجح المؤتمر الاغترابي في أبيدجيان. فضلا عن أخطار اتخاذه طابعاً عنفياً.

توقف البعض في تحليل الخلاف الحاصل بسبب مرسوم ترقية الضباط، عند الحدث في حد ذاته او عند ظروفه السياسية الحالية. منهم من تطرّق إلى الاختلاف بين الفريقين في "التعاطي الدستوري" مع مسألة المرسوم. ومنهم من ربط التشنجات الحاصلة بالاعتبارات الانتخابية وما تتطلبه من تجييش. الفريقان أهملا حقيقية ان الصراع ليس مستجداً، وهو سبق ان طال مسائل أخرى وفي ظروف أخرى. 

آخرون حاولوا التفتيش عن أسباب بنيوية لظاهرة بدت غير طارئة ومتكررة خلال السنوات غير القليلة الماضية ولا سيما بعد الانقسام بين الاذاريين.

البنية الطائفية كانت حاضرة لتفسير الاستقطاب بين الرئاستين المنتميتين الى طائفتين تتنافسان على النفوذ السياسي والاقتصادي، وتحديدا ما بين شيعية سياسية صاعدة ومارونية سياسية تحاول استعادة مجدها (حسام عيتاني مثلا في "درج").

في الاتجاه نفسه، جرت مقاربة الصراع من منظار شد العصبيات الدينية-المذهبية (منى فياض في "النهار"). هذه العصبيات لم يعد هدفها الغلبة في الضرورة كما العصبيات القبلية، بل "حفظ حدودها مقابل حدود الخصم من دون كسر شوكته... وبعد ان اصبحت العصبية معششة في عمق وعي الافراد ومصالح المدافعين عنها، اصبح تعرضها للهجوم يقويها بدل اضعافها".

على أهمية التحليل البنيوي بالمقارنة مع التحليل الظرفي، واستكمالا له، يبقى السؤال عن خصوصية هذا الصراع وتمايزه في حدّته واستمراريته عن الصراعات الأخرى بين القوى والعصبيات المذهبية والطائفية.

لعل أحد الاجوبة المحتملة هو ما يسمّيه البعض بغياب "الكيمياء" بين الرئيسين. لكن ماذا يعني ذلك؟

معظمنا اختبر غياب "الكيمياء" مع بعض الناس، أي عندما يكون "التفاعل" البشري بيننا وبين البعض صعباً أو غائباً، تماما كما التفاعل الكيميائي بين بعض المواد.

لماذا تغيب "الكيمياء"؟ الجواب أسهل في علم الكيمياء، أما في العلوم الانسانية فهو يُبنى على فرضيات ليس سهلاً إثبات صحتها. لعل الذين يعرفون الرئيسين عن قرب يمكنهم ان يساعدوا في الإجابة إما من خلال ملاحظاتهم وإما من خلال ما صرح به الرئيسان أحدهما عن الآخر. لكن في الكثير من الاحيان تكون الاسباب الحقيقية لا واعية عند الطرفين.

يفترض هذا النص ان أحد الأسباب لغياب "الكيمياء" بين الطرفين، هو العلاقة المشتركة والقوية مع "حزب الله"، بصفته صاحب النفوذ الأقوى فى البلد، والذي يربطه بالاثنين تحالف منفصل ووثيق.

تكاد هذه العلاقة السياسية الثلاثية الضلع، لكن القائمة على ثنائيتين متوازيتين، تشبه العلاقة الفريدة التي تقوم في العائلة حيث تعدد الزوجات، وما ينجم عنها من حساسية مفرطة وغيرة وتنافس ضروس بين الزوجة وضرّتها.

أعتقد أنه يجوز في مجتمعات لم تخرج بعد من تأثير البنى العائلية والقبلية، أن نستعين بعلم النفس العائلي لمساعدة علم النفس السياسي على الفهم.

في أوضاع كهذه، الزوج وحده قادر على وقف الصراع وربما فقط إلى حين. لكن الزوج في حالتنا كثير المشاغل وهو يعمل داخل البلد وخارجه ليهتم بعائلته الممتدة، وهو يهمل بالتالي بعض الشيء عائلته الصغيرة. وهو على الأرجح لن يتدخل الا عندما يصل الخلاف إلى "المطبخ" مما قد يهدد بـ"احتراق الطبخة".

اغلب الظن ان الطبخة تكاد تحترق اليوم، وان الوقت قد حان للتدخل الحاسم. فعندما تخرج السياسة عن كونها تنظيماً لقواعد الاجتماع بين البشر لتتحول إلى عملية "كيميائية"، يصبح الانفجار احتمالاً أصيلاً.