عندما وقّع التيّار الوطني الحر “التفاهم” الشهير مع حزب الله عام 2006 ظنّ مؤسِّسه ورئيسه العماد ميشال عون أنه حصل على تأييد الطائفة الشيعيّة كُلِّها في لبنان. ذلك أنها لم تنسَ ولن تنسى أنه حرَّر الجنوب وضفافه من احتلال اسرائيل، علماً أن المقاومة كانت بدأتها “أمل” الإمام المُغيّب موسى الصدر و”جبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة” وجهات أخرى. ولم تنسَ ولن تنسى أنّه واجه عدوانها عليه وعلى لبنان عام 2006 بشجاعة فائقة وبنجاح فاجأ العالم، وأنه مُستعدّ دائماً لحمايتها منها ولبنان، ولذلك طوّر بمساعدة إيران الإسلاميّة وبتسهيل من سوريا الأسدَيْن” امكاناته العسكريّة.

ولم تنسَ ولن تنسى أن إيران هذه التي تعتبره ابناً لها حوّلته قوة سياسيّة – عسكريّة مُهمّة صارت تحسب حسابها دول المنطقة ومعها المجتمع الدولي. انطلاقاً من هذا الظنّ اعتبر “التيّار” أن الشيعة كلّهم صاروا مؤيّدين لـ”الحزب” ومؤيّدة له. وربّما اعتبر مع الوقت أن “حركة أمل” التي سبقت ولادتها ولادة “الحزب” بسنوات صارت مِطواعَةً له. لكنّ التطوّرات التي حصلت في البلاد منذ ذلك التاريخ أثبتت أن الشيعة تجاوزوا انقساماتهم التي تسبّب بها في القرن الماضي خلاف سوريا حافظ الأسد وإيران الإسلاميّة على لبنان رغم تحالفهما الاستراتيجي ضد عراق صدّام حسين وحلفائه. فتقاسموا الأدوار بحيث ركّز “الحزب” على “المقاومة” العسكريّة واهتمّت “الحركة” بالعمل السياسي. طبعاً دفعت التطوّرات “الحزب” لاحقاً إلى العمل السياسي في الداخل. لكن ذلك لم يُجفِّل “الحركة” إذ نجح رئيسها في إقامة شراكة “ثنائيّة” فاعلة ومُنسجمة مع “الحزب” رغم بعض الخلافات وخصوصاً بعد نشوب الثورة في سوريا.

ولعلّ أبرز أسباب نجاحها كان قرار كل من طرفَيْها احترام استقلاليّة الآخر، والحق في الاختلاف السياسي مع الحرص دائماً على عدم إعادة الماضي الأليم، لأن مصيرهما “في الدقّ” بعدما استفحل الصراع المذهبي في لبنان والمنطقة. وقد ظهر الاختلاف واضحاً في الموقف من التيّار الوطني الحر ومن وصول مؤسِّسه عون إلى رئاسة الجمهوريّة. فـ”الكيمياء لم تركب” بين زعيم “أمل” وزعيم “التيّار” وانعكس ذلك على جمهورَيْهما. طبعاً لم يُرضِ ذلك “التيّار”، ولم تُفلح مساعي حليف الإثنين حزب الله في دفعهما إلى التلاقي، وبدا واضحاً لكل مُتابع أن الصدام سيقع. والإنصاف هنا يقتضي الإشارة إلى أن الرئيس نبيه برّي كان دائماً يترك لـ”الصُلح مطرح”.

لكن باسيل لم يجارِهْ في ذلك إذ تعمّد التصعيد. كما تساءل كل مُتابع إذ كان هدف موقف باسيل دفع “أمل” و”الحزب” إلى الاختلاف السياسي الذي لا يمكن إلّا أن يتطوّر نزاعات وتقاتل في البلدات والقرى والمُدُن. أمّا غايته من ذلك فليس من إجماع حولها، إذ يعتبر البعض أن طموحه المتنوّع أعماه وجعله ينسى أسباب وحدة الفريقين، وينسى أيضاً أن ترقّيه السياسي ووصول “تيّاره” إلى رئاسة الدولة لم يكن بسبب شعبيّتهما المسيحيّة فقط، بل بفضل “حزب الله” وتصميمه وسلاحه وصلابة قيادته وإصرارها على “ردّ جميل” “تفاهم مار مخايل”. وينسى أسباب “الوحدة الشيعيّة” ويغامر بدفعهما إلى صدام يُخسّرهما معاً. وأثبت بذلك أن صِفَتَيْهِ الجيّدتين وهما حِدّة الذكاء والنشاط المُفرط لم تُلغيا صفة ثالثة عنده هي كونه “شريراً”. وقد تَحدَّثْتُ عن ذلك في لقاء تلفزيوني أو أكثر قبل أشهر. فالغاية عنده تُبرِّر الوسيلة. وسوء التقدير يجعله ينسى نقاط ضعفه وحزبه، ويؤمن فعلاً بأن “الرئاسة قويّة” وبأن في استطاعته إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. وتحالفه مع الآخرين يرمي إلى ابتلاعهم (مسيحيّون) أو استخدامهم (مسلمون). وأهدافه الآن ثلاثة: الفوز بمقعد البترون النيابي، تحوّل “التيّار” الذي يترأّس زعيماً للمسيحيّين، وإعداد معركة رئاسته للجمهوريّة. أمّا الشعارات الوطنيّة والطائفيّة والمذهبيّة فتفاصيل.

في النهاية، لا بُدّ من الإشارة إلى نَزقٍ عند باسيل، وإلى أن “لا كبير عنده” كما يُقال، وإلى أن لسانه أي كلامه يسبق عقله، وذلك ليس من صفات رجل الدولة. وإلى أن المصالح تأتي قبل التحالفات والوفاء لها. علماً أن الإنصاف يقتضي الإشارة إلى أن المدرسة السياسيّة التي تخرَّج منها فيها بعض هذه الصفات. فلُغة “تكسير الرؤوس” سمعها اللبنانيّون من زمان ورأوا الدمار الذي ألحقته أولاً بالمسيحيّين ثم بلبنان كُله. في النهاية في هذه المدرسة المسيحيّة كما في مدارس أخرى تناقض يجب حلُّه. فهي ذات أهداف مسيحيّة، ومشروعات سُلطويّة، ومشروعات وطنيّة، ومصالح متنوّعة. والمدارس المُشابهة في الطوائف الأخرى كثيرة، ولا خلاص للبنان بواسطتها كلّها. وعلى الرئيس عون الأكثر هدوءاً ظاهريّاً منذ انتخابه رئيساً أن يؤكِّد حقيقة هدوئه بتمنّيه على باسيل وعلى الرئيس برّي تهدئة الشارع لأن انفلاته يُفقد السيطرة عليه. ويَسري ذلك على الشوارع الأخرى.