أيّ جدوى تُجنى من الإصرار على خوض المعارك الخاسرة؟ سؤال محيِّر لا يجد له جواباً حتى العالمون بالغيب والضاربون في الرمل والضالعون في عِلم التبصير والتنجيم السياسي. وصاغته الوقائع السياسية التي تتالت منذ انتخاب العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية. ومعلوم هنا أنّ الرئيس نبيه برّي كان معترضاً على هذا الانتخاب، إلّا أنّه امتثلَ إلى نتائج اللعبة وقلبَ الصفحة ومدَّ يد التعاون إلى رئيس الجمهورية
 

ما حصَل خلال مرحلة ما بعد انتخاب عون، أنّ هذه الصفحة لم تُقلَب لدى من لم ينسوا أنّ بري لم يصوّت لعون، وأخذت الأزمات تُفرّخ، وحرّكتها قلوب «مليانة» بالهواجس المتبادلة، تعدّت حدود شَخْصَيْ الرئيسَين، لتعكسَ أزمة نظام، ربّما لأنّ اتفاق الطائف، وكما يقال، لم يُحسَن تطبيقُه، أو أنّه أثبتَ عجزَه عن ترتيبٍ منهجي للعلاقة بين مؤسسات الدولة، وتحديدٍ دقيق لصلاحيات الرؤساء، وتفسيرٍ واضح للدستور، وتوزيعٍ سليم لأدوار السلطات، ما انعكسَ فوضى واستنسابية في إدارة الحكم.

الأمر الذي أصابَ «الجمهورية الثانية»، أو جمهورية ما بعد الطائف، بنوعٍ مِن الرخاوة السياسية أشبَه بـ»ترقّق العظام»، وفي مراحل متقدّمة من المرض.

إذا قلبنا صفحات مرحلة ما بعد انتخاب رئيس الجمهورية في تشرين الأوّل 2016، تتراءى سلسلة من المعارك التي زادت المرَض استفحالاً:

• أولى المعارك، كانت خلال مرحلة تشكيل حكومة سعد الحريري، حيث تصرّفَ التيار الوطني الحر من موقع المتحكّم بمن يجب أن يتوزّروا في الحكومة، وبتوزيع الحقائب الوزارية. وثمّة مثالان ساطعان:

• المثال الأوّل، الإصرار آنذاك على عدم إشراك تيار المردة لاسباب مرتبطة بترشّح النائب سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية في وجه عون. وبرغم هذا الاصرار الذي اخَذ طابعاً حاداً، فشلت محاولة إقصاء المردة. إلّا انّ المسألة عادت وأُشعِلت في مكان آخر، من خلال رفضِ إسناد حقيبة اساسية او خدماتية للمردة، والإصرار على منحه حقيبة «كيف ما كان»، وهذا الأصرار بدوره قوبلَ بجبهة اعتراضية من بري وكذلك «حزب الله» وأطراف سياسية اخرى، فرَضت على التيار الحر التراجعَ وإسنادَ حقيبة الأشغال لوزير المردة يوسف فنيانوس.

• المثال الثاني، ما تكشّفَ خلال مشاورات تأليف الحكومة عن وضعِ التيار وفريق رئيس الجمهورية «فيتو» على بعض الأسماء المرشّحة للتوزير من قبَل أطراف سياسية غير التيار، على ما حصَل بدايةً مع الوزير علي حسن خليل، لكن تمّ إسقاط «الفيتو» بشعار رفعَه بري آنذاك: «نحن نختار من يمثّلنا في الحكومة أياً كان، وغير مسموح لأيّ كان أن يختار لنا من يمثّلنا».

إلّا انّ المعركة انتقلت الى ساحة وزارة المالية، حيث لجَأ هؤلاء الى وضعِ «فيتو» على جعلِ هذه الحقيبة من حصّة بري وإسنادها للوزير خليل تحديداً. لكنّ هذا الفيتو اصطدم بجدار صلب ، وكانت النتيجة أن سقط «الفيتو» مرّة ثانية، وأسنِدت المالية للوزير خليل.

- المعركة الثانية، في مرحلة إعداد القانون الانتخابي، ومحاولة التيار عبر رئيسه الوزير جبران باسيل الوصولَ الى قانون يلبّي ما يطمح اليه، حيث رفعَ باسيل آنذاك شعار «بعد الانتخابات سيكون هناك واقع سياسي جديد وخريطة سياسية جديدة ومَوازين جديدة»، وبالاستناد الى هذا الشعار قدّم سيلاً من الاقتراحات والصيَغ، والنقاش الذي دار حولها وتَّر العلاقات بين التيار وسائر القوى السياسية، حتى مع اقربِ الحلفاء. وفي النتيجة سقطت الاقتراحات وأمكنَ الوصول الى قانون سُمّي بـ»أفضل الممكن».

مع ذلك، تفرَّعت عن هذه المعركة، معركة أخرى على ساحة تسجيل الناخبين في الداخل والخارج، حيث سُجّل أداء متناقض في مقاربة هذه المسألة، إذ أصرَّ باسيل على تسجيل المغتربين في الخارج، رافضاً تسجيل الناخبين في الداخل الراغبين في الاقتراع في مكان السَكن وليس في مكان القيد. ثمّ ما قبل اسابيع قليلة، فاجَأ وزير الخارجية أعضاءَ اللجنة الوزارية المعنية بالقانون الانتخابي بأنّه مع تسجيل الناخبين في الداخل.

وأتبَع ذلك باقتراح تمديد فترة تسجيل المغتربين والمنتشرين. حصَل سجال تقني وسياسي حول هذه المسألة وفي النتيجة سقط تمديد التسجيل، الى جانب كلّ التعديلات المقترحة للقانون الانتخابي، وعلّق باسيل على هذا السقوط بقوله «للمرّة الثالثة خسرت وخسر معي اللبنانيون الإصلاحات».

• المعركة الثالثة، على ساحة التعيينات، حيث ربح التيار مجموعة من الموظفين، الّا أنّ ذلك أدّى الى اهتزاز العلاقة مع الطرف الثاني لتفاهم معراب ومندرجاته، أي «القوات اللبنانية».

• المعركة الرابعة، على حلبة بواخر الكهرباء، حيث سعى التيار جاهداً بالتناغم مع الحريري لتمرير صفقة بواخر الكهرباء ومنحِها للشركة التركية «كارباورشيب» وبكلفة تُقارب الملياري دولار. وفي النتيجة فشلت هذه المحاولة وسَقطت الصفقة بضربة قاضية سدّدتها لها «إدارة المناقصات».

• المعركة الخامسة، التي اندلعت على حلبة مرسوم الاقدميات، وتمدّدت الى مرسوم الترقيات. وباعَدت بين الرئيسين عون وبري وأحدثت انقساماً حادّاً في الرأي حول الطريقة التي اتّبعت في وضع مرسوم منحِ الاقدميات وطريقة تمريره تهريباً، التي استفزّت بري ودفعَته الى المجاهرة بالجرم المشهود الذي تجلّى في مخالفة الاصول والآلية القانونية والدستورية لإعداد المراسيم وإصدارها، وكذلك المجاهرة برفض «هذا المنحى الذي يَسلكونه على قاعدة: ما لنا لنا، وما لكم لنا».

هذه الأزمة لم تنتهِ بعد، ويقال إنّ جهوداً تُبذل مِن قبَل «الأصدقاء» للوصول الى تهدئة بين بعبدا وعين التينة ووقفِ إطلاق النار عبر المنابر السياسية والاعلامية، خصوصاً وأنّها تفاقمت وتحوّلت من أزمةِ مرسوم الى أزمة حول مفهوم الشراكة في البلد وكيفية إدارة الدولة، ومفهوم الحقوق والواجبات والصلاحيات، ومفهوم القانون ومفهوم الطائف والدستور، الذي لم يسبق ان شهد ما شهده في الفترة الأخيرة من تفسيرات تُسخّر المواد الدستورية في خدمة المسؤول وتوجّهاته وعلى نحوٍ أشعَر كثيرين بأنّ الطائف في خطر، وتُفاقِمُ هذا الخطر الى حد أنّ فئةٌ باتت تعتبر الدستورَ إلهاً مِن تمر، وبدأت تأكله».
أكثر ما زاد احتدامَ هذه المعركة، هو تلك التسريبات التي يقال انّها انبعثت من أوساط قريبة من التيار ومن محيطه.

واستغلّها «متضرّرون» للتحريض على أخذِ العلاقة الشيعية المسيحية الى ساحة التوتّر والافتراق.

تلك التسريبات بما صاحبَها من جوّ تحريضي وحملات ممذهبة، بدأت من جهةٍ تتحدّث بلغةٍ فوقيّة عن الهوية المذهبية لوزارة المالية، وتُروّج لعدم إسنادها الى شيعي. وأتبَعت ذلك في الوقت ذاته بالحديث عن انّ مرحلة ما بعد الانتخابات النيابية، ستكون مرحلة تصفيةِ الحساب مع نبيه بري، وقطع طريق رئاسة المجلس النيابي أمامه!

لم يتبَنَّ التيار الوطني الحر هذه التسريبات، إلّا أنّها استمرّت بالتصاعد من قبَل بعض المحيط. الرئيس بري أدار أذنَاً طرشاء لها.. سياسيّون استهجنوا ما وصَفوه «استسهال محاولات المسّ بـ»الخطوط الحمراء» والمغامرة بإشعار اطرافٍ سياسية كبيرة بأنّها في موقع الاستهداف وعُرضة للإلغاء والإقصاء. هذه التسريبات، صاغها البُعد الثأري ورغباتٌ لا تُغيّر معادلات بل لا تزيد إلّا الأزمات».

هنا يَستحضر هؤلاء السياسيون انتخابات العام 2005، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والتي أوصَلت فريق 14 آذار الى ذروة القوّة السياسية بالفوز الكبير الذي حقّقه ومنحه اكثريةً مكّنته من حكمِ البلد لسنوات. يومها وضَعت الولايات المتحدة الاميركية وفرنسا ثِقلهما لمنعِ انتخاب بري رئيساً للمجلس. وتمّ تجهيز شخصية نيابية شيعية لتحلّ محل بري.

تحمَّس بعض الفائزين للفكرة، لكن خبَت حماستهم بعدما تلقّوا تحذيراً ممّا وصِفت آنذاك «مجازفة الإخلال بالمعادلات الداخلية، وانتبهوا الشيعة متوحدون خلف بري».

مع ذلك استمرّت واشنطن وباريس بالضغط، السفير الفرنسي في بيروت آنذاك برنار ايمييه أسرّ لبعض هذا الفريق بتوصية من الرئيس الفرنسي آنذاك جاك شيراك: «لا تنتخبوا نبيه بري».

السفير الاميركي آنذاك جيفري فيلتمان جمع اعلاميين وسياسيين لبنانيين وأبلغَهم: «يجب أن يتغيّر نبيه بري، فما معنى التغيير الذي حصَل في حال بقيَ نبيه بري في موقعه، وإننا نعتبر إعادةَ انتخابه إشارة سلبية، هدفُنا إزاحة اميل لحود، وبقاء برّي سيشكّل عائقاً امام إزاحته، وسيقول لنا المسيحيون لماذا تزيحون الرئيس المسيحي بينما تبقون على نبيه بري الشيعي».

يومها قارَب بري محاولة استهدافِه بطريقة تهكّمية: «ربّما هم لا يعلمون أنّني لستُ مرشّحاً لا للكونغرس الاميركي ولا للجمعية الوطنية الفرنسية، ثمّ أيّ فخر اكبر من ان تواجهك اميركا وفرنسا، فخرٌ لي أن أترشّح في مقابل هذا الرفض، فإن فزتُ فسيكون فوزاً عظيماً، وإن خسرتُ فهي خسارة عظيمة ومشرّفة».
في النتيجة، لم تتمكّن واشنطن وباريس برغم ما تملكان من قدرة وقوّة ونفوذ، من الإخلال بالمعادلة الداخلية، وربح بري.