يمتلك الجيلُ الجديدُ مهاراتٍ متنوعةً في توظيف وسائلِ التواصل الاجتماعي واستخداماتِها المتنوعة في تأمين متطلباتِ حياته المختلفة. وهذه الوسائل هي التي تسهم في إنتاجِ أنماطِ وجودِه وطرائقِ عيشِه وطبيعةِ صلاتِه بما حوله. وسائلُ التواصل اليوم تنتج معاييرَها القيمية الخاصة، وتعمل على صياغةِ العلاقات الاجتماعية وإعادة تشكيلها في سياق آفاق حياةِ ورغباتِ وأحلامِ الجيل الجديد. إن ادراكَ الآباء وتفهمَهم لما تفرضه وسائلُ التواصل من سلوكٍ مختلف في تكييف علاقاتهم بالأبناء، ضرورةٌ يفرضها تكييفُ العلاقاتِ المختلفة بين جيلَي الآباء والأبناء، في سياقٍ لا يعاند روحَ العصر، ولا يضحّي بما هو أخلاقي إنساني في إعادة بناءِ هذه العلاقات.

كلُّ شيء يكتسب معناه من نمطِ صلاتِه الوجودية بغيرِه من الأشياء. الجيلُ الجديد أكثرُ قدرةً على إدراكِ المعاني الجديدةِ للأشياء، لأن الأشياءَ في عالمنا اكتسبت معانيَ جديدةً أو أُضيفت لمعانيها أبعادٌ لم نكن نعرفها من قبل، ولم تعد تسمياتُها المتداولةُ من قبل تتسع لدلالاتِها الجديدة اليوم. ذلك أن العالمَ يتغير، والرؤيةُ للعالم تتغير، وطريقةُ التفكير تتغير، ومعاني الأشياء تتغير، وقاموسُ التعبير عنها يتغير.

عالمُنا اليوم عالمٌ شبكيّ متداخلٌ كنسيجٍ متشابك، لم يعد التفوّقُ فيه عبر بناءِ كانتونات ومحميات مغلَقة على نفسها، بل معيارُ التفوّق فيه يقاس بمدى كثافةِ الحضور عبر نسيجِ الشبكاتِ الألكترونيةِ العابرةِ للقارات، والقادرةِ على اختراقِ الحدود الجغرافية والديمغرافية والدينية والثقافية والاقتصادية والسياسية. تتنبأ دراساتُ استشراف المستقبل بأنه حتى سنة 2030 سيختفي ما يقارب المليارين من الوظائف التي كانت تعتمد مهنًا تنتمي لعالم جغرافيات وديمغرافيات الأمس المغلقة، ذلك العالَمُ الذي بدأنا نرى علاماتِ انتهاءِ صلاحيته وانتهاءِ صلاحية تلك المهن والحرف معه، إنهما يغادران معًا العالَم الجديد بالتدريج، العالَم الذي ينخرط في شبكات ألكترونية يحضر فيها كلُّ ما يمتلكه، عالَم ينتجه الذكاءُ الصناعي والروبوتاتُ والطاقةُ البديلةُ وهندسةُ الجينات وتكنولوجيا النانو.

إن كانت هذه صورةُ العالَم غدًا، فكيف يكون حضورُ مجتمعاتنا في مثل هذا العالَم الذي لا يكفُّ عن الصيرورة والتغيّر والانتقال من محطة إلى أخرى بسرعة فائقة. عالَم لم تتخذ هذه المجتمعاتُ حيالَه تدابيرَ تتناسب وحجمَ تحدّياتِه الهائلة.

للشبابِ دورٌ رائدٌ في صناعة هذا العالَم الذي هو عالَمهم. لهم النصيبُ الأوفرُ في ابتكارِ نمطِ حياةِ القرن الحادي والعشرين، فمؤسِّسُ الفيس بك "مارك زوكربيرغ[1]" وزملاؤه كانوا من التلامذة الجامعيين. و"ستيف جوبز" كان في منتصف العقد الثالث من عمره تقريبًا عندما "قام مع شريكيه ستيف وزنياك ومايك ماركيولا، وآخرون بتصميم وتطوير وتسويق واحد من أوائل خطوط إنتاج الحاسب الشخصي التجارية الناجحة، والتي تُعرف باسم سلسلة أبل"، ثم قامت أبل باطلاق الكومبيوتر الشخصي ماكنتوش 1984[2].  وبعد ذلك اخترع الآيبود والآيفون والآيباد وغيرِهما من المراكب التي ننتقل معها بسرعة خاطفة لحضورٍ مختلفٍ في عالَمنا اليوم.

كلُّ معلمي المدارس الابتدائية ومدرّسي الثانويات وأساتذةِ الجامعة يتبرّمون من أن جيلَ الأبناءَ يفتقرون للجديةِ والوفاءِ بمتطلبات الواجباتِ المدرسية، والمثابرةِ على الحضورِ والإصغاء والتلقي في الفصول الدراسية، لذلك تدهور مستوى التلامذة وضعف تكوينُهم، ولم يعد كثيرٌ منهم مؤهلًا للمرحلة المدرسية التي يعبر إليها. وهذه مشكلةٌ صارت مزمنةً في أكثر من بلد، على درجاتٍ تختلف كمًا وتتطابق كيفًا.

النظامُ التعليمي الذي أنتج وعيَ الآباء مازال يعيد إنتاجَ وعي الأبناء، وهو إن كان متناسباً مع ذهنِ الآباء لكنه يعجز اليوم عن إنتاجِ وعيٍ مواكبٍ لحياةِ الأبناء، بل يتفاقم التضادُّ والتناشزُ بين  النظامِ التعليمي وبين قدرةِ الأبناء على التلقي والتعلّم، وكلما مرّت عليه سنةٌ جديدة يغدو متخلّفًا أكثر، لأن وتيرةَ التغيير في زماننا كلَّ سنة فيها تساوي عشراتِ السنين مما مضى، كما تؤشر لذلك الأبحاثُ العلمية في هذا الحقل.

نحن بحاجة للبحث عن جذورِ هذه المشكلة في بنيةِ التربية والتعليمِ الموروثِ منذ عشرات السنين، الذي ينتمي لعالَم الأمس المختلف عن عالَم اليوم اختلافًا جوهريًا، فلم يعد الكتابُ وحده رافدًا لتلقّي المعرفة، بعد أن تراجع موقعُه فأضحى أحد الروافد - ربما ثانوياً - بموازة روافد متدفقة غزيرة متنوعة، ولم يعد التعليمُ على وفق أساليب وطرائق التدريس الموروثة ملائمًا لعالمنا اليوم، بل لم يعد الصفُّ المدرسي بفضائه وأدواته المتعارفة ملائمًا للتعليم، وقبل كلّ ذلك لم تعد ملائمةً اليوم معظمُ المعلومات والمفاهيم والخبرات والمهارات المكدّسة بعشوائية في المقرّرات المدرسية المتدوالة، لأن أغلبَ مضامينها لا ينتمي لعالَم الأبناء، ولا يشبه أحلامَهم، ولا يلبي احتياجاتِهم؛ لغربتها عنهم وغربتهم عنها، لذلك يشعر الأبناءُ بالاغترابِ والمرارة عندما تُفرض عليهم هذه المقرّرات، ويشمئزون عندما يجدون أنفسَهم ملزمين أن يمضغوا أشياءَ لا تشبه ذائقتَهم ولا يشبهونها، ويتعلمون علومًا ومعارف لا تنتمي لزمانهم، ولا تعرف منطقَ حياتهم، ولا تتحدّث لغةَ عصرهم.

عالَمُ الأبناء وهبَهم الكثيرَ من الامكاناتِ الجديدة لمراكمةِ المعرفة وإنتاجِ وعي بلحظتهم الراهنة تنعكسُ عليه ملامحُ عصرهم، ويحتفلون بكل ألوانه، تلك الملامح والألوان التي كان يجهلها عالَمُ الآباء.

المشكلةُ ليستْ في الأبناء، وإنما في تفكيرِ الآباءِ المتخشّب، وفهمِهم للعالَم الذي لا يعرف إلّا أن يكرّرَ نفسَه باستمرار، ويعجز عن مغادرةِ ما ألفه إلى أفقٍ جديد. الأبناء ليسوا بلداء كما يظن كثيرٌ من الآباء، إذ ليس هناك إنسانٌ بليدٌ بالطبع، لكن الأبناءَ غيرُ قادرين على تمثّل صورة عالَمٍ مضى وانقضى.

حتى من كان من الأبناء لا يمتلك استعدادًا ذهنيًا جيدًا في مجالٍ معرفي معين، وكانت موهبتُه ضئيلةً فيه، يمكن أن يكون موهوبًا ويمتلك استعدادًا ذهنيًا متميزًا في مجالٍ آخر. يخفق التعليمُ عندما يصرّ على تلميذٍ موهوبٍ أن يتعلّم في مجالٍ معرفي يفتقر للموهبةِ فيه، إذ يكون كمن يزرع الرزَ في الصحراء أو يزرع نباتاتِ الصحراء في الماء.

كذلك يخفق التعليمُ عندما يتشبّث بالمقرّراتِ وطرائقِ التدريس ووسائلِ التعليم التي تعلّمَ في فضائِها جيلُ الآباء، فجمد عليها بكلِّ ما فيها، لأن ما هو قديمٌ في ثقافتِنا يكتسب مشروعيةَ بقائِه واستمراريتِه من كونه موروثًا عن الآباء.

وهكذا يخفق التعليمُ اليومَ عندما ينشد إنتاجَ كائناتٍ بشرية متماثلة،كأنها آلاتٌ مادية تتشابه بكلِّ شيء، وتُلغى فيها فرادةُ الشخص البشري واختلافاتُه الذاتية عن كلِّ أحدٍ في الأرض، تلك الاختلافاتُ الذاتية التي هي منجمُ الإبداعِ والقدرةِ على الخلقِ والابتكار.

يتبع الحلقة الثالثة.