ثبتَ بالوجه الشرعي وبالملموس أنّ الانتخابات النيابية، فاقت كلَّ سابقاتها ما قبل الطائف وبعده، من حيث غموض نتائجها، وشكل الصورة التي ستحكم المشهد الحكومي تبعاً للخريطة النيابية التي ستفرزها صناديق الاقتراع في السادس من أيار المقبل.
 

لعلّ هذا الغموض، الذي لم تنجح استطلاعات الرأي والدراسات في اختراق جداره بشكل دقيق، هو الذي حمّس بعض الاصوات في الداخل لإشاعة جو ملتبس حول القانون الانتخابي ومقاربته كقانون صعب الفهم ليس فقط على الناس العاديين، بل حتى على الخبراء في الشأن الانتخابي والنابغين في عالم الاستطلاعات، سواء لناحية نسجِ التحالفات، وكيفية تركيب اللوائع، وكيفية اقتراع الناس، وكيفية احتساب النتائج، وكيفية إعلان الفائزين وترتيبهم.

هذا الجوّ الغامض كان الدافعَ للبعض للتشكيك بإجراء الانتخابات في موعدها، وبدءِ الحديث عن تمديدٍ جديد لمجلس النواب الحالي. يضاف الى ذلك القلق الذي زرَعه القانون الانتخابي الجديد لدى أطراف داخليين وأصدقائهم الإقلييمن، بوصفه قانوناً انتقامياً منهم يُدخِل البلد في زمنٍ سياسي فوق إرادتهم وعلى حسابهم.

وهو الأمر الذي جعلَ البعضَ من هؤلاء يجاهرون بقلقِهم ممّا وصَفوه « القانون اللامتوازن»، بالتوازي مع حراك غير منظور من قبَل بعض الاطراف الإقليميين لنسفِ الانتخابات.

حجّة هؤلاء التي يجري الترويج لها، كما تفيد معطيات تملكها مراجع سياسية، «أنّ الانتخابات اللبنانية المقرّر أن تجري في أيار المقبل، وفق القانون الجديد، ستؤدّي إلى فوز «حزب الله» وحلفائه، وستقدّم البلدَ هديةً للحزب. والنتيجة الطبيعية لفوز «حزب الله» هي سيطرته على البلد، وسيطرة الحزب على لبنان تعني سيطرةَ إيران وبشّار الأسد، الأمر الذي سيضع لبنان في موقعٍ لا يُحسَد عليه لا داخلياً ولا إقليمياً ولا دولياً، وسيؤدّي ذلك بطبيعة الحال الى التضييق عليه على كلّ المستويات.

ما كشَفه ديبلوماسيون غربيون لبعض المسؤولين اللبنانيين في الفترة الأخيرة، يؤكد أنّ هذه الحجّة عرضتها جهات اقليمية معنية بالشأن اللبناني خلال الأشهر الماضية، وأكثر من مرّة، على جهات دولية متعدّدة، ومِن بينِها دولٌ كبرى، وحذّرَت ممّا وصَفته انقلاباً يجري في لبنان، واستمزَجت رأيَ تلك الجهات في ما يمكن عمله لمنعِ حصول هذا الانقلاب، وفي كيفية تداركِ سيطرة «حزب الله» على لبنان.

الأجوية التي تلقّاها أصحاب تلك الحجّة، لم تأتِ متناغمةً معها أو حتى متفهّمةً لها، إذ اعتُبرت نوعاً من التحريض المسبَق على الانتخابات اللبنانية، وتتناقض جذرياً مع ما تفيد به تقارير البعثات الديبلوماسية من لبنان ويَشي بغير الصورة السلبية التي رسَمها القلِقون الإقليميون من الانتخابات. ولذلك كان الردّ على هذه الحجّة موحّداً لناحية التأكيد على استقرار لبنان وضرورة استمراره وعدم تعريضِه لِما قد يخلّ به، ولناحية التأكيد ايضاً على إجراء الانتخابات في موعدها باعتبارها عنصرَ ترسيخٍ أكثر فأكثر لهذا الاستقرار، ولناحيةِ لفتِ انتباه القلِقين الاقليميين إلى أنّ لبنان قد توافقَ بكلّ قواه السياسية على قانونٍ انتخابي جديد يعتبرونه الأفضل بالنسبة إليهم، وبالتالي فإنّ ما قد يؤدي الى حدوث انقلاب في الوضع في لبنان هو عدم إجراء الانتخابات، الذي من غير المستبعَد إنْ حصل ذلك، أن يخلق وضعاً يهدّد لبنان ونظامه السياسي ويمكن ان يؤدّي الى سيطرة «حزب الله» عليه.

اللافت في ما كشَفه الديبلوماسيون الغربيون لبعض المسؤوليين اللبنانيين، أنّهم يثقون بتأكيدات القيادات اللبنانية الرسمية والسياسية على إجراء الانتخابات، وأنّهم يلمسون تحضيرات جدّية للسير بالعملية الانتخابية في موعدها، وأنّهم ايضاً متيقّنون من أنّه لا توجد عراقيل، يضاف الى ذلك أنه لا يُرى أيّ عنصر تعطيل للانتخابات في لبنان لدى ايّ مِن الجهات الدولية. وخصوصاً أنّ للبنان موقعاً ودوراً في المرحلة المقبلة ربطاً بتطوّرات المنطقة والحلول والتسويات التي ستصل إليها في نهاية المطاف.

فالخارج كلّه، وخصوصاً الخارج الأوروبي، والكلام للديبلوماسيين، حاسمٌ لناحية ضرورة إجراء الانتخابات النيابية في لبنان في أجواء استقرار وهدوء، وثمّة إصرارٌ أكيد على هذا الاستقرار، وثمّة محطة أساسية وخطيرة شهدَها لبنان في تشرين الثاني الماضي خلال أزمةِ استقالة الرئيس سعد الحريري، والتي هدّدت بوضعِ لبنان على حافة الانفجار.

وكان يمكن لها ان تطيحَ بالانتخابات من ضِمن الضحايا التي ستتسبّب بسقوطها، صحيح أنّ الفرنسيين قاموا بجهود خلال هذه الأزمة، إلّا أنّ الدور الاساس في إنهاء هذه الأزمة ومنعِ انفجارها، كان للأميركيين وكذلك للإماراتيين. وخلاصة ذلك أن لا أحد في الخارج (ما خلا فريق القلِقين) يريد الإخلالَ باستقرار لبنان.

ومَن رفضَ الانزلاقَ في أزمةِ استقالة الحريري ومنعَ تفاقمَها إلى ما هو أسوأ على لبنان، كيف له ان ينزلقَ في لعبة تعطيلِ الانتخابات وتهديدِ استقرار هذا البلد، خصوصاً وأنّ توتير الوضع اللبناني لعبةٌ متدحرجة، إذ قد يستطيع أحدٌ ما أن يدحرج حجرَ تعطيل الانتخابات، إلّا أنّه قد لا يستطيع ان يحدّد النهاية وأين يمكن أن يرسوَ هذا الحجر وماذا ومَن سيصيب ومَن سيتأذّى منه؟!

واضح ممّا تقدَّم أنّ الصورة وكما يعكسها هؤلاء الديبلوماسيون مطَمئنة لعدم وجود مصدرٍ جدّي أو قدرةٍ جدّية خارجية لتعطيل الانتخابات في لبنان، بمعزلٍ عن رغبات وتمنّيات بعض الجهات الإقليمية وتحريضها لأصدقائها في لبنان لرفع وتيرةِ التصعيد والسجال السياسي في هذه الفترة، لكن ما يشغل السفارات والبعثات الديبلوماسية في هذه الفترة أمران:

• الأوّل، محاولة قراءة المشهد الانتخابي على حقيقته بعيداً عن سياسة التمويه ونفخِ الأحجام التي يتبعها بعضُ الاطراف، وفي سياق ذلك، استعانت بعض السفارات الغربية في الفترة الاخيرة ببعض الخبراء في الانتخابات ممّن يجيدون لغة الأرقام، ورسمَ خرائط التحالفات.

• الثاني، قراءة أبعاد المشهد السياسي والخلاف المستحكم على بعض القضايا والتفاصيل، خصوصاً المتعلقة بأزمة مرسوم الأقدميات المشتعلة بين الرئيسين ميشال عون ونبيه بري.

هنا يقول أحد السفراء الأوروبيين ما حرفيتُه: «كنّا وما زلنا ننصح لبنان بأن يستغلّ الفرَص التي تُتاح أمامه لتعزيز أمنِه واستقراره، نحن نراقب الوضعَ السياسي، ونتوقّف عند الهجومات المتبادلة. هناك فرصٌ كبيرة للبنان، فأوروبا تضغط بكلّ ثِقلها لدفع لبنان أكثر فأكثر إلى مزيد من الاستقرار، لكن ما يَبعث على الأسف هو هذا التنازع السياسي الذي لا يفيد لبنان، بل يُضيّع عليه فرص الهدوءِ والانتعاش أكثر.

قد يكون ما يجري من ضِمن اللعبة الديموقراطية وتحضيراً للانتخابات، لكن نرى ضرورة ألّا يصلَ هذا الأمر إلى سقفٍ تُشَلُّ معه البلد ويقدّم صورةً بالغة السلبية عن لبنان. هنا يجب أن ينتبه اللبنانيون إلى أنّ هناك من لا يريد للانتخابات في لبنان أن تحصل.