هناك «مارد» يريد الخروج من القمقم، في لبنان، إسمه «المجتمع المدني». لكن التحديات التي تواجه هذا «المارد» للخروج من القمقم أكبر من تحديات القوى السياسية التي تحاربه وتريد إبقاءه سجيناً. والغلبة في النهاية ستكون للأكثر تماسكاً وتخطيطاً استراتيجياً. فهل جهَّز المجتمع المدني عدّة كافية لمواجهة الزعامات السياسية أم يكتفي بالشعارات؟
 

تدرك الزعامات والقوى السياسية خطورة الانتخابات النيابية المقبلة. فهي تعرف أنّ مزاج اللبنانيين، ولا سيما منهم جيل الشباب، بتأثير من التحوّلات التي شهدتها السنوات الأخيرة في الشرق الأوسط والعالم ووسائل التواصل الاجتماعي، بات راغباً في التغيير.

تدرك أيضاً أن قوى دولية فاعلة تضغط في اتجاه إحداث تغييرات في الطاقم السياسي اللبناني، بحيث يتمّ ضخّ دم جديد في الحياة السياسية والمؤسسات، يقود إلى ذهنية جديدة قادرة على نقل لبنان من المراوحة، ويؤهله لمواكبة المتغيرات الإقليمية المصيرية.

طبعاً، بعد تجربة الانتخابات البلدية الأخيرة، خافت الزعامات والقوى السياسية على حالها جدياً، وبدأت التصدّي للاستحقاق بوسيلتين:

• الأولى استيعابية وتقضي بإطلاق وُرَش تحديثٍ داخلية.

• الثانية مواجِهة، وتقوم على فتح بازارات بين ذوي المصالح السياسية تؤدي إلى تحالف، ولو بين أصحاب العناوين والمبادئ المتضاربة، لمنع المجتمع المدني من تحقيق أي خرق.

كانت تجربة الانتخابات البلدية، في ربيع 2016، تحذيراً للطبقة السياسية. وبناء عليه، عمدت هذه الطبقة إلى تطيير الانتخابات النيابية، في ربيع 2017، وسعت إلى تركيب قانون للانتخاب تستطيع أن تَضمن فيه النتائج مسبقاً، فلا تكون هناك مفاجأة من خارج السياق.

لو كان النظام النسبي معتمداً في الانتخابات البلدية، لكان المجتمع المدني حقَّق خروقات موجعة في عدد من المناطق، بما فيها البيئة الشيعية الأكثر انضباطاً. وأما في العاصمة فكانت «بيروت مدينتي» ستخطف أقل بقليل من نصف مقاعد المجلس البلدي من أيدي تحالف السياسيين.

اليوم، تبدو القوى السياسية مربكة في التعاطي مع استحقاق 6 أيار. وقد كان ممكناً أن تطلق منذ أشهر وُرَش تدريب وتأهيل وتعريف بالقانون، للناخب والمرشح. إلا أنها، وعلى مسافة 3 أشهر فقط من الموعد، لا تبدو متحمسة لإجراء الانتخابات في موعدها، إلا إذا تأكدت من سيطرتها الكاملة على النتائج.
بوضوح أكبر، الصورة هي الآتية:

في المعسكر السياسي، يعمل كل طرفٍ لتكون له أكبر المكاسب في المجلس المقبل، لكنّ «حزب الله» لا تعنيه التفاصيل الصغيرة، ويريد غالبية نيابية ساحقة في المجلس المقبل توافق على نهجه بلا مناقشة.

والتحضيرات للتحالفات الانتخابية تطغى عليها الماكيافيلية: «الغاية تبرِّر الوسيلة». ويتردّد أنّ هناك تحالفات «مثيرة» تتراكب بين ذوي الشعارات المتناقضة جداً… وغداً في المجلس «قَبّروا بعضكن»!

مثلاً: الحريري سيتعاون مع «التيار الوطني الحرّ» حليف «حزب الله»، في كل الدوائر. ويقال إنّ «الجماعة الإسلامية» قد تتحالف مع «القوات اللبنانية» في دوائر معينة، لمواجهة «المستقبل»- «التيار». وأمّا جنبلاط فيبحث عن «خلطة سحرية» مع الجميع.

ليس الأمر جديداً. أساساً، كان الحريري قد دعم العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية. وكذلك فعل الدكتور سمير جعجع. وهذه التسوية هي التي تسببت بحدوث زلزال «الاستقالة» في السعودية، في تشرين الثاني الفائت. وإذا جاءت الانتخابات النيابية لتكرّس تسوية خريف 2016، فمَن يَضمَن تكرار الزلازل؟

إذاً، الآن، لا قيمة للخيارات والمبادئ. فالقوى السياسية تبحث عن تحالفات مصلحية توفّر أفضل المكاسب في المجلس النيابي المقبل. وهي تتنازع للحصول على الأفضل، لكنها جميعاً تتفق على هدف واحد: منع المجتمع المدني من تحقيق خروقات في المجلس المقبل.

وفي المقابل، تستعد عشرات الهيئات والحركات والجمعيات التي تنضوي تحت عنوان «المجتمع المدني» لخوض الانتخابات، إستعداداً لدخول التجرية النيابية للمرة الأولى في لبنان، وسط أسئلة بالغة الأهمية لا بدّ من طرحها:


1 - هل ستتجاوز هذه الهيئات والحركات مطبّ المصالح الشخصية وتبني لوائحها الانتخابية الموحّدة على مستوى الدوائر كافة؟


2 - هل ستتوافق على برامج متكاملة تخوض الانتخابات من خلالها؟ أي هل تستطيع أن تتجاوز عناوين محاربة الفساد والحداثة والديموقراطية إلى العناوين الخلافية التي تعصف بلبنان سياسياً وطائفياً، والتي ربما ينقسم حولها أيضاً القائمون بالحراك المدني: موقع لبنان في نزاع المحاور الإقليمية، السلاح، والموقف من «اتفاق الطائف» والتجاذبات السياسية والطائفية حول تفسير بنوده وسوى ذلك الكثير؟ أم ستلتزم العموميات وتبتعد عن هذه المسائل الساخنة. وإذا فعلت ذلك، فكيف ستواكب الرأي العام؟


3 - هل ستخوض الانتخابات بمعزل عن كل القوى السياسية، حتى تلك الاعتراضية التي شاركتها أخيراً ساحات المواجهة مع الفساد والتجاوزات، كحزب الكتائب مثلاً؟ وهل إنّ التحالف مع هذه القوى يمنحها قدرات أكبر على الخرق؟ أم إنها ستلتزم عنوان «كِلُّن يعني كِلُّن»؟ وهل يصبّ تشرذم صفوف المجتمع المدني والقوى الاعتراضية لمصلحة الخصم المشترك، قوى السلطة؟

المعنيّون بالحراك المدني، الذي أعلن أخيراً تحالف «وطني»، الذي يضمّ قسماً وافراً من القوى الناشطة مدنياً، يطمحون إلى تحقيق مفاجأة في الانتخابات المقبلة.

ويقولون: «نعرف أنّ قوى السلطة تبلور التحالفات في ما بينها لتطويقنا وإحباطنا، وهي قد تعطّل الانتخابات مجدداً إذا لم تضمَن السيطرة على نتائجها». ويضيفون: «هذه القوى تراهن على استضعافنا وشرذمتنا.

ونخشى أن تلجأ قبَيل الانتخابات إلى استثارة ملفات ذات طابع فئوي لجَذب القواعد طائفياً ومذهبياً بحيث تتمكن من الفوز في الانتخابات. ونحن ندرك في أي حال أنّ المجلس النيابي المقبل ستكون غالبيته للزعامات والقوى التقليدية. لكننا نراهن على أننا سنقتحم صفوف القوى السياسية بـ10 مقاعد وأكثر!

وتحقيق هذا الهدف، في تقدير هؤلاء، ستكون مفاعيله كبيرة، لأنّ هناك كتلاً سياسية أساسية لا تتوقع أن تحصل في الانتخابات النيابية على أكثر من 10 نواب أو 12 نائباً. ولذلك، سيكون لكتلة المجتمع المدني دورها الفاعل جداً في المجلس، خصوصاً أنها تضم ناشطين يتمتعون بالدينامية.

وفي أي حال، يعتقد هؤلاء، أنّ الاحتكار السياسي سيُكسَر، وسيؤدي فوز هيئات المجتمع المدني بعدد من المقاعد إلى تزويد الناخب والمرشح مزيداً من الشجاعة للإقدام وخوض المعركة وتحقيق نتائج أفضل في الجولات المقبلة. فما ينقص الرأي العام هو الثقة في القدرة على التغيير.

المتابعون يعتقدون أنّ أمام ناشطي المجتمع المدني فرصة لجعل الانتخابات النيابية المقبلة موعداً حاسماً لانطلاق مسار التغيير. والأهم هو أن يحافظ «المعسكر المدني» على نقائه من الملوِّثات السياسية والطائفية والمذهبية، ومن المصالح والأهواء والغايات الشخصية.