ممارسة الديمقراطية والتعوّد على أصولها وإحترام مضامينها لا تتم بين ليلة وضحاها، فتعزيز الوعي حول أهميتها ودورها في حماية المواطن وتكريس حقوقه وحرياته الأساسية يقع في صلب عملية الإستفادة من مفاعيلها الإيجابية. 

وعندما يكون للديمقراطية خصائصها المجتمعة، أي أنها لم تُسقط إسقاطاً على المجتمع، كالديموقراطية اللبنانية مثلاً، التي تلبس ثوب التوافقية حيناً والميثاقية أحياناً، فذلك يجعلها أكثر تعقيداً، ويجعل إمكانية التلاعب بمفاهيمها أكثر قابلية للتحقيق لا سيما في بلد مثل لبنان عانى تاريخياً من لعنة ضعف الدولة وتفكك مشروعها.

في الديمقراطية التوافقية اللبنانية، يشوّه حق المشاركة ويتحوّل بفعل الممارسة إلى حق للتعطيل، ويصبح الدستور بمثابة وجهة نظر يستعان به من هذا الطرف السياسي أو ذاك وفق الحاجة السياسية في هذه اللحظة، ويفتي بها جيش من "الخبراء" الدستوريين الذين قد لا يتوانى بعضهم عن تطويع مواده أو مضامينه بما يتلاءم مع مصلحتهم وتبعيتهم لهذا الفريق أو ذاك!

عند كل منعطف، تُستولد أزمة سياسية بثوب دستوري، أو أزمة دستورية بثوبٍ سياسي، لا فرق المهم إقحام الدستور في النزاعات السياسية فيما المطلوب الإحتكام اليه لفض تلك النزاعات!

 الدستور هو القانون الأعلى في الدولة، فبدل أن يتم تشويهه وضرب أسسه ومرتكزاته، يفترض إحترامه وتطبيق مواده، وإذا وقع الخلاف حول تفسيرها، فثمة حاجة للعودة إلى جهة ما تملك وحدها صلاحية التفسير وتكون منزهة عن الإعتبارات السياسية والفئوية والمصلحية.

المجلس الدستوري اللبناني لا يملك هذه الصلاحية وقد حُصر دوره بالطعون الإنتخابية في الإنتخابات الرئاسية والنيابية وفي التثبت من دستورية القوانين عندما يراجع بشأنها وليس بصورة أوتوماتيكية، أي أنه من الممكن صدور قوانين غير دستورية ولا يحرك أحد ساكناً. وتستحق تجربة هذا المجلس وتعثّره عند بعض المنعطفات البحث والتقييم.

إن الخطوة الأولى لإعادة الإعتبار للدستور تكون من خلال تأكيد الإلتزام به وعدم خرق مواده أو تفسيرها إعتباطياً أو تحويرها لمصالح فئوية، وهذا ما يفترض أن تلتزم به كل القوى السياسية. الدستور والدولة توأمان لا ينفكان؛ فإنحلال الدولة وإضمحلال مشروعها يقضي على الدستور، وضرب الدستور وعدم إحترامه يطيح بالدولة ومرتكزاتها.

إن مشروع الدولة هو الوحيد الحاضن والجامع للبنانيين على مختلف مشاربهم وحبذا لو تتواضع كل القوى السياسية وتمنح الدولة بعضاً من قوتها ونفوذها ففي بقائها، إن لم نقل قيامها، مصلحة عليا تعلو فوق كل الإعتبارات.

على عكس ما قد تعتبر بعض الأطراف السياسية، مشروع الدولة هو الوحيد الكفيل بحمايتها وإحتضانها، وهو الوحيد الكفيل بضيانة الإستقرار والسلم الأهلي الداخلي. والرهان الوحيد الذي يُكتب له الإستمرار هو هذا السلم الداخلي وليس الولاء الخارجي.

لقد دار فائض القوة دورته الكاملة على الأحزاب السياسية والطوائف والمذاهب وسرعان ما عاد وتبين أن لا مفر عن مشروع الدولة، إذ مهما تعثرت الدولة تبقى الملاذ الأخير للمواطن، وتبقى المرجع الأخير لمختلف الفئات والأطراف والشرائح، ومهما قويت الأطراف الأخرى تبقى قاصرة من أن تحل محل الدولة.

اللبنانيون مقبلون على إستحقاق ديمقراطي طال إنتظاره لظروف وأسباب باتت معروفة، إذ بالإضافة إلى أهمية تجديد الحياة السياسية من خلال الإنتخابات النيابية، الأهم هو التمسك بالدستور والقوانين وفوق كل ذلك التمسك بالأخلاق السياسية.

إن إعادة الأخلاق إلى السياسة والسياسة إلى الأخلاق هو التحدي الأبرز أمامنا جميعاً، فردم الهوة السحيقة بين المواطن والدولة لا يتم إلا من خلال هذا الممر الإلزامي، وهذا ليس كلاماً طوباوياً أو مثالياً، ومن قال أن الطلاق بين المثالية والواقعية حتمي ونهائي؟ ومن قال أن التوفيق بينهما يستحيل تطبيقه في اللحظة المناسبة والمؤاتية؟

إن إنحدار مستوى العمل السياسي اللبناني هو مسؤولية جماعية وإعادة الإعتبار للمفاهيم الأساسية للسياسة ممكن متى توفّرت الإرادة السياسية لذلك.

ولكن، مع كل ما قيل، ورغم كل ما يُقال، تبقى الديمقراطية اللبنانية بمعزل عن هشاشتها وتعثرها وعدم إكتمال عناصرها متنفساً للمواطنين في الحريات والسياسة والإعلام والدين والمعتقد والتظاهر والتعبير عن الرأي، ما يجعل مجرد التفكير بالمسّ بها كالمسّ بجوهر لبنان وطبيعة تركيبته القائمة على التعددية والتنوع في مواجهة الآحاديات المظلمة والمقنعة.