من المعلوم أنّ مستوى تطوّر البنى التحتيّة في أيّ مجتمع مرتبطٌ ارتباطًا وثيقًا برفاه السكان عمومًا. فأيّ دولة في القرن الحادي والعشرين، بغض النظر عن حجمها، تعمل فيها الأنظمة بكفاءة، هي التي تؤمّن لمواطنيها، عبر قطاعيها العام والخاص، خدماتٍ آمنةً وموثوقاً بها وبكلفة معقولة، فتتيح تالياً المجال لبلورة "دوائر الفرص" التي تدفع عجلة النموّ الاقتصاديّ.  

وممّا لا شكّ فيه أنّ توافر أنظمة البنى التحتيّة التقليديّة من مواصلات، وماء، وصرف صحّي، وكهرباء، واتصالات، وطاقة، هي مهمّة بمكان لحياتنا اليوميّة، لدرجة أنّ أيّ خلل يطال أيّاً منها لفترة طويلة يؤثّر تأثيرًا كبيرًا في النشاط الاقتصاديّ وفي استثمارات رؤوس الأموال. غير أنّ البنى التحتية في لبنان، التي شهدت تطوّرًا ملحوظًا في الآونة الأخيرة، إذ نهضت من الأنقاض بعد عقود من عدم الاستقرار السياسي والأمني، وبدت عليها ملامح الانتعاش في العقد الأخير، ما زالت غير قادرة على تلبية الطلب المتنامي، ومواجهة العوامل الجيوسياسيّة، ولا سيّما في غياب التخطيط الاستراتيجيّ الطويل الأمد.

ومن المعروف أيضًا أن الاقتصاد اللبنانيّ يعتمد بصورة كبيرة على الخدمات، وبخاصة التجاريّة والمصرفيّة والسياحيّة وسواها من تكنولوجيّات متطوّرة وقطاعات قائمة على المعرفة مثل خدمات التعليم العالي والاتصالات، يضاف إليها القطاع الصناعي الذي يشهد اهتمامًا متجدّدًا ببعض الصناعات المبتكرة. فضلاً عن ذلك، يشكّل نموّ قطاع الاتصالات مؤشرًا واضحًا للحاجة إلى زيادة دور الاستثمارات الخاصة في البنى التحتيّة دعمًا للاقتصاد اللبناني، الذي هو بأمسّ الحاجة إلى "إعادة إقلاع"، بعد فترة تباطؤ ترافقت مع الأزمة السوريّة.

لذلك لا نتفاجأ من رؤية استثمارات خاصة جديدة تستهدف مشاريع تطوير البنى التحتيّة في لبنان، ومنها على سبيل المثال، استعداد بنك أف.أف.أي. (FFA Private Bank) لإطلاق أدوات الاستثمار المُهيكلة بهدف توجيه الاستثمارات نحو مشاريع توليد الطاقة وغيرها من مشاريع البنى التحتية، واضعًا نصب أعينه هدفًا أوليًّا لاستثمارات بقيمة مليار دولار أميركي، على المديين القصير والمتوسط، خلال فترة عامين أو ثلاثة، بحسب رئيس مجلس إدارة البنك، السيّد جان رياشي. وتستهدف هذه المشاريع الطاقة الشمسيّة، والهوائيّة، والمائيّة بشكل أساسيّ، فضلاً عن مشاريع تحويل النفايات إلى طاقة ومشاريع معالجة النفايات، تتبعها مشاريع دعم التنقيب على النفط والغاز. (المصدر: https://www.libc.net/2017/05/29/1-billion-investment-vehicle-in-lebanon-for-infrastructure-projects/ )

أضف إلى ذلك مبادرات أخرى تستحق التقدير كتلك التي تستهدف قطاعات محدّدة، والمبنية على تطوير المعرفة، ونقل التكنولوجيا، وبناء القدرات. فالمشروع الذي أطلقته شركة هولندية في شباط 2017، والذي يمتد على سنتين، يهدف إلى تعزيز سبل توفير مياه الشرب، وتنقية المياه الآسنة، وزيادة توافر المياه وتحسين نوعيّتها، إلى جانب زيادة إنتاج المزارعين من خلال تشجيعهم على ترشيد استخدام مياه الريّ في سهل البقاع. (المصدر: https://www.wur.nl/en/newsarticle/Working-together-with-Lebanon-for-water-infrastructure-and-agricultural-development.htm )

وفي إطار بيئة الاستثمارات الخاصة الجديدة والمشاريع الرائدة ذات القيمة المضافة، تعمل السلطات جاهدة لاستحداث قوانين جديدة وتعديل أنظمة الحوكمة الموجودة، ووضع مقاربة استراتيجيّة لتطوير البنية التحتيّة في لبنان بهدف دعم الانتعاش الاقتصاديّ على المدى الطويل. في الواقع، يعدّ تطوير خطة نموّ اقتصادي تحدّد أولويّات النموّ لمختلف القطاعات الاقتصاديّة، شرطًا أساسيًّا وضروريًّا لمقاربة التخطيط الاستراتيجيّ لمشاريع البنى التحتيّة المتكاملة. وتدخل عملية تصميم علاقات الترابط والاعتماد المتبادل بين القطاعات المختلفة، على المستويات البشرية والتقنية وسواها، في صلب هذه المقاربة الاستراتيجية. إذ يؤثر هذا الترابط إيجابيًّا، لا سيّما على مستوى الدعم المتبادل بين قطاعات البنى التحتية المختلفة، مثل الطاقة والمواصلات. غير أنّه قد يحمل آثارًا سلبيّة في بعض الأحيان، إذ إنّ سوء تخطيط شبكة صرف المياه الصحيّ، مثلاً، يؤدّي إلى فيضان الطرقات خلال عواصف الأمطار الشديدة، ممّا يتسبّب في تعطّل شبكة المواصلات وازدحام خانق في حركة السير. أمّا سياسة التخطيط الرشيد، فتتطلّب تكاملاً بين الأنظمة القديمة والجديدة لإدماج شبكات الألياف البصرية، والمياه، والصرف الصّحي، ومياه الأمطار من جهة، مع أنظمة شبكات المواصلات والبنى التحتية الخضراء من جهة أخرى، من أجل الحؤول دون تجاوز التكاليف الناجمة عن أعمال الطرق المتكرّرة وغير المجدية، ممّا يؤدي ايضًا إلى خسائر فادحة في الانتاجيّة.

يقف لبنان اليوم أمام مفترق طرق حيث إنّ تطوير شبكة بنى تحتيّة متكاملة، باللجوء إلى الشراكات بين القطاعين العام والخاص أو الاستثمارات الخاصة، بإشراف القطاع العام وبالتكامل مع خطة توجيهيّة استراتيجيّة، لم تكن يومًا أكثر إلحاحًا. لذلك، ما من بديل للتخطيط المتكامل الطويل الأمد بالتنسيق مع المؤسّسات الحكوميّة، وأبرز دليل على ذلك استمرار أزمة النفايات التي لم يتوصّل المسؤولون إلى إيجاد حلّ لها. ويكمن الدور الأساسيّ لإدارة البنى التحتيّة في دعم تطوّر هذا الشبكات بغية دفع عجلة النمو الاقتصاديّ وتعزيز الرفاه الاجتماعي. ومع تطوّر قطاع الطاقة في لبنان، يبقى السبيل الوحيد إلى الانتعاش الاقتصاديّ في وضع مقاربة استراتيجيّة متكاملة لخطة البنى التحتيّة وبكلفة فعّالة، ضمن إطار الشراكات بين القطاعين العام والخاص، مع التركيز بصورة خاصة على تعزيز الموثوقيّة والمرونة والاستدامة.

(فادي قرعة)