كان العام ٢٠١٧ ثريّاً بالأفلام الكبيرة التي لن تسقط كورقة مع حلول الموسم الجديد. مرةً أخرى، أكّدت السينما انها في صدارة الفنون الحيّة، قدرتها في تحديث الخطاب الإنساني والبحث عن سجال وتسلية الملايين لا تشوبها شائبة. فالموت المؤجل مراراً لم يحن آوانه بعد.  

المقال الآتي حصيلة ١٢ شهراً من المشاهدة النهمة في المهرجانات الدولية، من كانّ إلى برلين والبندقية، فعدد لا يقل عن ٣٠ موعداً سينمائياً أتاحت لي حضورها لالتقاط كلّ مستجد ومثير على الشاشة العريضة. الحصيلة تشمل كذلك نسبة غير قليلة من الأفلام التي عُرضت في الصالات التجارية، وثمة جواهر بتوقيع هوليوود أو غيرها لا تقل أهمية عن أحدث روائع سينما المؤلف. ومن الظلم الشديد عدم التوقف عندها باسم طهرانية سينمائية معينة تعتمد منطق التراتبية.  

في طبيعة الحال، الكثير من الأفلام هُمِّشت، وقد تعود لتحيا من جديد بأشكال مشاهدة بديلة أطالت عمر الفيلم وانتشلته من حكم الإعدام المفروض عليه سابقاً. وثمة أفلام أيضاً لمع نجمها في المهرجانات وبين النخب السينيفيلية أو المشاهدين الفضوليين. في الحالتين، سلّمت لنا الشاشة لحظاتها الأسمى وحكاياتها الأبهى وأسرارها الأحدث.  

نزوات السينمائيين وحاجتهم إلى الإغواء ورغبهم في ان يكونوا شهوداً على زمنهم، حبستنا في الصالات المظلمة لفترة لا تقل عن ٦٠٠ ساعة طوال عام كامل، هناك حيث النور الممتدّ في الفراغ يتحوّل دموعاً وأحلاماً وخيبات ونهايات سعيدة. لذلك، يحق لنا ربمّا أن نطلب منكم الوقت للقراءة. 

"جسد وروح" لإيلديكو أنييدي

عندما اكتشفتُ الفيلم في الـ"برليناله" (شباط ٢٠١٧)، عنونتُ مقالي عنه "وردة المهرجان". السينيفيليون يعرفون جيداً أنييدي التي سبق ان قدّمت "قرني العشرون" ("الكاميرا الذهب" - كانّ ١٩٨٩)، قبل أكثر من ٢٥ عاماً. أواخر التسعينات توقفّت عن العمل، فعادت في ٢٠١٧ بـ"جسد وروح" الذي فاز بـ"دب برلين". حلم مشترك يجمع شخصين يعملان في مسلخ. إنهما روحان يتيمتان على موجة واحدة في لاوعيهما. علاقة حبّ تنشأ في هذا المكان الصريح بوضوحه، حيث لا بين بين. نصّ المخرجة المجرية هو معاينة مخبرية لجانب من الطبيعة الآدمية المعقّدة. لا درس، لا خطاب. أنييدي تطرح نفسها مراقبة للأهواء البشرية، لا واعظة. نتابع يوميات المسلخ وتطوّر العلاقة بين أندره وماريّا، وصولاً إلى ذروة الأسئلة التي ينشغل بها الفيلم: هل التشابه يجمع الشخصين أم يفرّقهما؟ هذا فيلم مشاعر بسيطة نلتقطها بدوافعنا الخاصة، تتشكّل من همسات وحالات نفسية ترتقي بأصحابها، فيه الكثير من الجمال والدفء الإنساني والطرافة والمواقف المتأصّلة في الواقع المجري اليومي. واقع لن نرى منه الكثير، فهو ينعكس على وجه الشخصيتين، هو في تجاعيده، وهي في عبوسها الذي سيتحوّل ابتسامة خلال لحظات خاطفة.


"نادني باسمك" للوكا غوادانينو

بين "ناتورالية" موريس بيالا وجرأة برناردو برتوللوتشي... هذه سينما عواطف مكبوتة صار وجودها نادراً على شاشات يهيمن عليها العنف والقتل والانتقام. "نادني باسمك" ذروة في الفنّ والجمال والحسية والبساطة المكثفة والاغواء وبدايات الوعي على المشاعر واكتشاف الذات من خلال آخر. هذا توصيف لا يرد الاعتبار إلى جزء بسيط حتى من عظمة فيلم غوادانينو (كتب له السيناريو المخرج الأميركي الكبير جيمس أيفوري استناداً إلى رواية اندره أسيمان) الذي اكتشفته في آخر عرض له خلال مهرجان برلين الأخير، فخرجتُ منه بإحساس ينطوي على مزيج من السعادة والدهشة. فغوادانينو لم يشِ بهذا القدر من الموهبة والوعي في أفلامه السابقة. هل هو النصّ المرهف أم الأجواء أم البيئة التي يعرفها جيداً (صوره في مسقطه كريما على بُعد ساعة من ميلانو)، أو ربما خليط هذا كله هو الذي أتاح هذه الكيمياء، بالاضافة إلى الطابع الدولي للفيلم، وهذه الهوية هنا غير مفتعلة، بل أصيلة، تكاملية.

انها بداية الثمانينات، عندما يتعرف المراهق ايليو، سليل عائلة بورجوازية الريف الإيطالي المتعددة الثقافة، بأوليفر، طالب جامعي أميركي يكبره بنحو سبع سنوات، الا ان هذه السنوات مدّته بمستوى آخر من الوعي والادراك. لا يقدّم الفيلم طوال ساعتين و١٢ دقيقة الا تسكّعاً في أزقّة المدينة القديمة أو في حضن الطبيعة العذراء الخلابة. شمس إيطاليا الساطعة لا تجد انعكاساً أروع لها الا في القلوب التواقة للحبّ والشغف. من الصعب تحديد مدى أهمية الفيلم الفنية والثقافية و"الأنثروبولوجية"، فنحن أمام تجربة بصرية، لا شفهية، رغم تكاثر الكلام فيها (هنا أشدد على ضرورة مشاهدة الفيلم في صالة سينما، والا لن يصل منه الكثير إلى المشاهد). يتقدم "نادني باسمك"خطوة خطوة بلا صخب، بحياء شديد واعتبار مثير لكلّ خصائص تلك المرحلة، فنشعر بوطأة الزمن، وحتى اننا نتلمسه ببؤبؤ العينين، فالقيظ الذي عانت منه أوروبا في صيف ١٩٨٢ محسوس وغير معلن في عمل يفضّل الإيحاء على الإظهار، ويميل إلى الأفكار أكثر منالعاطفة، ومن هنا يتأتى جماله الذي يخطف النفس. هذا فيلم يضع الكتاب والموسيقى وافطارا صباحيا ومشهد استمناء بالخوخ على قدم المساواة. "نادني باسمك" ليس فيلماً مثلياً، كما قد يعتقد البعض، ولا ينتصر لقضية أو يشرع ملفاً. انه دعوة للبحث عن الجمال في الجمال. لافت كيف يتأخر الفيلم على لحظات صغيرة، علاقات مكلومة مع جوهر الحياة، ليمدّنا في الآخر بإحساس رهيب بالأشياء، وعي بماهية الانسان، الأمر الذي يفلت من يد الكثير من السينمائيين. يعرف غوادانينو كيف يلتقط هذا الضوء!


"الملائكة ترتدي الأبيض" لفيفيان كو

ثاني فيلم لفيفيان كو، احدى المخرجات اللواتي انخرطن في السينما الصينية المستقلة، وسبق ان أنتجت "فحم أسود، ثلج رقيق" الفائز بـ"دب برلين". حادثة اعتداء جنسي في فندق تشكّل مناسبة لدراما انسانية تتحلق حول شخصية عاملة الاستقبال التي يمنعها عدم امتلاكها أوراقاً ثبوتية من تقديم شهادة. من هنا وصعوداً، يفتح الفيلم على قنوات عدة، فيغدو نقداً دقيقاً للصين المعاصرة التي يظللها تمثال ضخم لماريلين مونرو. وعندما نقول قنوات، نعني بها الفسادوالاتجار بالأطفال وسوء إستخدام وسائل الإعلام والسلطة الأبوية. هذا كله يرسم لوحة قاتمة، ولكن من دون ان تنقلب إلى السواد الكليّ، فيتمترس الفيلم بذلك خلف خطوط الإدانة السهلة، لا في طليعتها.


"سبليت" لنايت شيامالان

هذا الفيلم يعيد ترتيب مكانة المخرج م. نايت شيامالان في السينما الأميركية الحديثة، بعد مجموعة اخفاقات مدوية تستمر منذ سنوات واعتقدنا انه لن ينهض منها أبداً. "سبليت" يدنو من التحفة السينمائية (من دون ان يكونها بالضرورة)، بتحديثه "جانر"، الثريللر النفسي، كما فعل سابقاً مع "الحاسة السادسة" في مطلع الألفية. جيمس ماكافوي يجسّد ببراعة لافتة ٢٣ شخصية في جسد واحد. إحداها تخطف ٣ مراهقات، خلال خروجهن من سناك. إحدى تلك الشخصيات هي الأخطر ولن تتأخر في الظهور، عاكسة تيمة الغربة التي يشعر بها المرء، الحاضرة بتمظهرات مختلفة في عمل المخرج. كلّ هذا سيتصارع ويتخبط داخل الشخصية غير السوية. شيامالان يعود إلى ما كان صنع مجده في "غير قابل للكسر": حرفة وصنعة متقنة وسيناريو ملهم. فيلمه هذا معذَّب، مسكون بألف هاجس تتجلى على مراحل، ويشي بتخلّيه التدريجي عن التويست الذي اشتهر فيه. يحلو لي الاعتقاد ان "سبليت" يحرر شيامالان ويُخرجه من الحيز الذي حبس فيه نفسه طوال سنوات، صعوداً نحو مجهول...


"مدينة Z الضائعة" لجيمس غراي

سادس أفلام المخرج الأميركي الكبير، عملٌ طموح يقع بين كوبولا وديفيد لين وفرنر هرتزوغ. عن المستكشف البريطاني برسي فاوسيت الذي اختفى في أدغال الأمازون وهو يبحث عن مدينة ضائعة. لم يتم العثور على جثته وغيابه يبقى لغزاً كبيراً. مرة جديدة، يصوّر غراي نهايات غير مكتملة، سفراً إلى مجهول. يفتح قوسين جامعتين ولا يغلقهما لأنه لا يملك أجوبة عن أسئلة كثيرة يطرحها. بهواجسه وخلفيته الثقافية المغايرة لخلفية الكثير من أبناء جيله (على رغم مكوثه على مسافة قريبة من مصنع السينما)، لا يزال مخلصاً لأشيائه الصغيرة التي تبدو خارج الموضة والزمن. طموحه، على غرابته، هو الذي ينهض بسينما طموحة همّها الإنسان في المرتبة الأولى. "مدينة Z الضائعة" لا يعدو كونه همسات وسط حقل ألغام هوليوودية، مذهل بصرياً وتمثيلاً وخطاباً، عظيم في قدرته على الإمساك بالحتمية التي يصوّرها أروع تصوير. يترنّح الفيلم بين ما هو متناهٍ في الكبر وما هو متناهٍ في الصغر. نادراً ما التقت الحميمية في فيلم مغامرات يحسن الحديث عن الطبيعة البشرية والإيمان بشيء والخروج عن الصفّ والطاعة إلى هذا الحد. لا يوجد ما هو أجمل من الانغماس في هذه الرحلة سوى جنون غراي الذي لا يحدّه أي شيء. نبل سينماه وأناقتها درسٌ! 


"ديترويت" لكاثرين بيغلو 

صفعة سينمائية قاسية توجهها السينمائية الأميركية القديرة على وجه فصل من فصول التاريخ الأميركي الحديث. لا عجب في ان هذا الفيلم المزعج والسجالي تم تجاهله كلياً في الجوائز، بعدما أحدث جدلاً. تنطلق بيغلو من أحداث ١٩٦٧ في ديترويت، وتحديداً من المواجهات بين القوى الأمنية والأميركيين الأفارقة التي استغرقت نحواً من اسبوع وأسفر عنها ٤٥ قتيلاً. كلّ شيء يبدأ مع مداهمة للشرطة تخرج عن السيطرة، فتشتعل المدينة برمتها لتتحول إلى ساحة معركة حقيقية. تصوّر بيغلو الأحداث بحرص شديد على اظهار القسوة بلا أي رومانس، من دون ان تساوم. تمشي على خطى سامويل فوللر أو بيتر واتكينز. بعد المقدمة البليغة، ندخل، كمصوّر يكبس على الزوم، في فندق حيث لجأت مجموعة شباب، بعد الاشتباه فيه كمصدر لإطلاق نار، ما يجبر الشرطة على اقتحامه، واعتقال كلّ من فيه، ليتبعه استجواب دموي مستفيض لا يخلو من العنصرية والسادية والتعذيب الذي يبلغ مستويات عالية من العنف. بيغلو تصيب مباشرةً الهدف، كعادتها الفيلمية، هي شاهدة أكثر منها معلقة: على العنف البوليسي، على غياب العدالة الاجتماعية، على القضاء الناقص، على أسئلة أخلاقية تشغلها. صحيح تتبنى موضوعاً هادفاً، لكن من دون أن تسقط في أي من مطبّاته. بيغلو واحدة من النساء القليلات اللواتي تصورن مشاهد القتال والحرب بخشونة وفعالية مذهلة. "ديترويت" يوفر واحداً من أشرس الحوارات بين الماضي والحاضر. "لا شيء تغير" تقول بيغلو في احدى مقابلاتها، مع ذلك، تغيّر الكثير، وبقيت الأمور على حالها. هنا فظاعة الخطاب الذي يطرحه عمل كبير سيشق طريقه إلى تاريخ هذا النوع السينمائي بكلّ أريحية. 


"١٢٠ دقّة في الدقيقة" لروبان كامبيو

الفيلم ينطلق من جمعية الـ"أكت أبّ" في فرنسا التي تتكفّل نشر الوعي حول صراع المرضى المصابين بالسيدا. هذا كله يحدث في زمن الرئيس فرنسوا ميتران (التسعينات)، وهو نوعاً ما نقد لاذع لعهده. مريض السيدا في هاتيك الأيام كان لا يزال إنساناً غير مرغوب فيه يعيش في "الخفاء" بعيداً من الأنظار. التضامن بين البشر هو الذي سيشرّع باب التغيير وصولاً الى أن يتم قبولهم. روبان كامبيّو يروي هذه القصة بقبضات نصف مرفوعة. واضح منذ البداية أنّ علاقته بموضوعه عضوية (كتب السيناريو مع المخرج فيليب مانجو الذي ترأس حركة "أكت آب")، فكل لقطة مُحمّلة كمّاً هائلاً من الحنان والعطف، ولكن أيضاً غضباً وريبة. ينتقل النصّ إلى مراحل تطور عدّة، فيصبح فردياً بعدما كان جماعياً لأكثر من ساعة. إثنان ينفصلان عن المجموعة: شون وناتان. الأول مصاب والثاني لا. يصادر الفيلم هذين في جزئه الثاني ليصبح نوعاً من توثيق عن القلق الذي يعيشه جيل كامل. ببراعة يُحسَد عليها، يزاوج كامبيّو العام بالخاص، النضال من أجل الآخرين بالنضال من أجل البقاء على قيد الحياة. من المستحيل عدم ذرف دمعة أمام مشهد نهر الدم الذي يعود في خيال شون المحتضر. فعندما تكون التجربة الشخصية للمخرج على هذا القدر من البلاغة، لا بد أن تنعكس على الشاشة. كان يمكن أن يكتفي بالرقص على القبور، ولكن في النهاية يُرقّصنا على دقات قلبه.


"قتل الغزال المقدس" ليورغوس لانثيموس

ضمن أجواء مشحونة ومتوتّرة ومناخات ضاغطة، نتعرف إلى عائلة تتألف من أب وزوجته وولديهما. كلّ شيء يبدو طبيعياً، الا أنّ خلف جدران الفيللا والمظاهر الأنيقة والسيارة الفارهة وكلّ هذا "البرستيج" الإجتماعي، ثمة الكثير من الأسرار التي سيكشفها لانثيموس تباعاً، ليس من دون خضّات مريعة وانهيارات تهزّ الفيلم برمّته. فيلمه هذا يفتقر إلى أيّ خلفية اجتماعية يمكن اللجوء إليها لشرح هذا أو ذاك. تعوم القصة في الفضاء (رغم حدوثها في أميركا)، ولا يمكن الركون لملامح البيئة المدينية لبناء استنتاجات. ومع ذاك نقتنع بما نراه. يستلهم لانثيموس اسطورة اغريقية ليرتّب نصّاً أخلاقياً غرائيباً بأجواء قاتمة تزداد قتامة كلما تقدم الفيلم إلى الأمام، مع لحظات ذورة يستخدم فيها المخرج شريطاً صوتياً صاخباً، مستحضراً خلاله جبروته في الإغواء البصري والتقني، في إشاعة مناخات وتشكيل كادرات لم تألفها العين. زوم أو "سلو موشن" من هنا، لقطة جوية في مستشفى من هناك، وها إنّنا في فيلم رعب ثمانيناتي أضيفت اليه رشّة من البسيكولوجيا والقلق. انه احتفالية بالشكلانية. يمكن توقّع الأسوأ من البشر الذين يعودون إلى حال بهيمية ما إن يدهمهم الخطر. بهيمية يعرف لانثيموس كيف يصوّر فظاعتها، ليترك أثرها ماثلاً فينا لفترة من الزمن. 


"الميدان" لروبن أوستلوند

نصّ ساخر، لاذع، لئيم، يعتمد على كمّ هائل من الهفوات لإغواء المُشاهد. بحسٍّ سوريالي لما نكره لويس بونويل، لا يوفر شيئاً أو أحداً من شرّه. الحوادث في الأصل تدور حول متحف ومديره الكاريزماتي كريستيان (كلايس بانغ)، رجل أربعيني يفتتح الفيلم بحديث معه تجريه صحافية أميركية تطلب منه شرحاً عن بعض العبارات المحشوّة بالادّعاء والتكلّف في كلامه عن الفنّ. منذ اللقطة الأولى، يؤسّس الفيلم لخطابه. سنمضي برفقة كريستيان ساعتين و٢٠ دقيقة في رحلة جنونية عبر عالم الفنّ المعاصر وكواليسه وكلّ هذه الأشياء التي تُعتبر الواجهة الثقافية لدول الرفاهية وراحة البال اليوم. بسخرية هدّامة، تصل إلى ذروتها الدرامية في مشهد استعراض فنان معاصر يدّعي أنه غوريللا، فيهاجم الحضور في سهرة يجتمع فيها كبار القوم. كلّ الأشياء تتداخل في الفيلم بعضها ببعض؛ من الغمز في قناة المجتمع الاستهلاكي (مشهد المول حيث يحمل كريستيان أكياس المشتريات)، إلى تعريف الفنّ الحديث من منظور طبقة من الناس غير متّصلين بالواقع. بعد "سائح"، ينزلق أوستلوند في المزيد من التسفيه والتتفيه والتعليق على المجتمع الذي خرج منه، ودائماً بأفكار مدفوعة إلى أقصى قدرة لها على المُساءلة. أعماله تتأرجح ما بين الفكاهة والأسى. أسى لا يحتاج سوى نقرة صغيرة ليطفو على السطح. 


"قروي صغير" لأوبير شارويل

"قروي صغير"، أحد أقوى التعابير عن إتجاه معين في السينما الفرنسية، تلك التي تسلك درب الناتورالية. كان محل إشادة لدى عرضه في كانّ ضمن قسم "اسبوع النقّاد". بيار (سوان أرلو)، مربّي أبقار، يستخرج منها الحليب لغرض تجاري. حياته كلها تتركّز على المزرعة التي ورثها من والديه. يتغيّر كلّ شيء عندما يكتشف أنّ وباء تفشى وسط المواشي وأصاب إحدى الأبقار. ما العمل؟ استدعاء المراقبين يعني بالتأكيد التضحية بالقطيع كلّه. أوبير شارويل يجعل الاحساس بصحّة الأشياء عالياً جداً في هذا الفيلم. صحّة الأداء والضوء والحوار والمواقف. فخلف مأساة بيار المجبر على التضحية بكلّ ما يملكه (أي صناعة كاملة: إنتاج حليب البقر وإرساله إلى الأسواق)، ثمة فيلم يكافح بصمت وكآبة وإحساس بالمسؤولية، لا من أجل شيء إنما لردّ الاعتبار إلى هؤلاء المزارعين الذين باتوا مهدّدين بالانقراض، وكاد حضورهم على شاشة السينما أن يصبح معدوماً. 


"مكتوب، حبّي - الأنشودة الأولى" لعبد اللطيف كشيش 

كتب ناقد على سبيل الذمّ ان "مكتوب" لا يروي شيئاً. لا يوجد مديح أكثر من هذا لفيلم ينحت الزمن. مشروع كشيش طموح جداً: تحقيق ملحمة عاطفية من ثلاثة أجزاء، طول كلّ واحد ثلاث ساعات. "مكتوب" جدارية تعيد الإعتبار إلى القدر في حياة الفرد. آب من العام ١٩٩٤ هو النقطة التي تنطلق منها الأحداث، ولا نعرف أين ومتى وكيف ستنتهي. استوحى كشيش من رواية "الجرح". نحن حيال عمل هائل، بل ملحمة هائلة. انه "ورك إن بروغريس". عمل صريح، يهرّ من بين الأصابع كحفنة رمل. طوال ثلاث ساعات وبعض الدقائق الإضافية، نتابع يوميات شبّان وبنات عرب وفرنسيين. من شواطئ سيت الفرنسية، إلى مزارعها عبوراً بحاناتها الليلية ومطاعمها، يقدّم كشيش تيليسكوباجاً لحياة صاخبة: حبّ وجنس وأحلام وعواطف وخيبات وغيرة وصداقات. هذا كله يحدث في مناخ من الحرية واللامبالاة والخفة. شخصية تتميز عن باقي الجوقة: أمين، الشاب المرهف هو مدخلنا إلى هذا العالم. نراه يلتقط الصور الفوتوغرافية ويحلم بصناعة الأفلام. انه صديق الكلّ وكاتم أسرارهم. دائماً يقف على الحافة، ينظر إلى الأسفل ولا يقفز. هذه الشخصية المغرية درامياً كونها تمثّل الكائن المتردد، هي "ألتر إيغو” المخرج. كشيش يعرف جيداً كيف يصوّر الشباب، في بيئتهم الطبيعية. الفيلم تسيطر عليه ألوان المتوسط ونوره. الإحالات على سينماه متعددة: الأزرق لون يتكرر في ملابس العديد من الشخصيات. الكسكس أو السباغيتي أكلة تحضر على كلّ الموائد. سيت تعود بيئة درامية مرة ثانية بعد "أسرار الكسكس". الحياة بكامل بهائها وروعتها وبراءتها وسقطاتها المدوية ومجدها العابر واخطائها القاتلة، هي ما يحاول كشيش اقتناصه، مسنوداً بمدير التصوير ماركو غرازيابلينا. "مكتوب" احتفاء بالحياة، وما مشهد وضع النعجة لـ"مولودها" الا أبهى أنواع التأكيد على ذلك. 


"أم" لدارن آرونوفسكي 

هناك مستويات قراءة عدة في "أم" الذي أتاح أرونوفسكي ان يذهب بعيداً في جنونه المتفلت من كلّ منطق، كي يلقي اسقاطاته الدينية وقراءاته التوراتية على حكاية زوجان، هو كاتب وهي تنتظر مولوداً. الرمزية كبيرة، المخاض صعب وأليم ولكن سيخرح منه فيلماً أشعل الـ"موسترا" خلال عرضه الأول، كونه يخربط المفهوم التقليدي لسينما الخوف، فتلقفه بعضهم كمحاولة للفت الانتباه. يمكن تلبيس الكثير لـ"أمّ!"، فهو فيلم شمّاعة. ولكن ما يطوف على السطح هو ميتافور العالم الذي نعيش فيه، وما هو البيت سوى ميكروكوزم. مشهد غزو البيت من الدهماء والشراشيح والمهسترين والحاقدين والصيّاع والصعاليك والدخلاء والغوغاء وكلّ أنواع الحثالات البشرية التي تنهش بأسنانها يعمّق اللبس. المعاني كلها تتداخل هنا في المشهد العاصف، قرابة الخاتمة، حيث يتحوّل الفيلم إلى حفلة كانيبالية. طوفان من الصور يلوّح فيه الهوس الأبدي الذي طورته السينما من موضوع الدخيل. العائلة مهددة، الحيز الشخصي مهدد، كلّ شيء في عراء الطبيعة. في هذا الفصل الأخير، سيحلّق أرونوفسكي عالياً في فضاء الفنّ السابع. مهما يكن ما يريد قوله، فهو سيبقى سيداً في إشاعة الجنون والفوضى وقلب الطاولة على الرؤوس وإنزال بشخصياته إلى الجحيم. الموسيقي يوهان يوهانسون شريك مثالي هنا. الغازي لا يستطيع غزو مَن لا يرغب بذلك في داخله ومَن لا يفتح له المجال. "أمّ!" يدعم هذه النظرية المجنونة. 


"الفيللا" لروبير غيديغيان

عملٌ كله حنان وأحاسيس مرهفة تأتي على دفعات وبشكل تصاعدي. فيلم غيديغيان أنشودة تدغدغ القلب. عودة إلى الينبوع. المخرج الفرنسي يعود إلى أشياء يعرفها جيداً ويجيد كيفية سردها: العلاقات بين البشر. مسرح الأحداث هو الفيللا العائلية التي لا يزال يحوم فوقها طيف أبٍ دخل في شبه غيبوبة بعد إصابته بسكتة دماغية، وعلى الأشقّاء الثلاثة الاهتمام به ورعايته. كلّ واحد منهم يتعامل مع المحنة على طريقته. تبقى الشقيقة. هي بيت القصيد. إنها العائدة بعد فترة غياب عشرين سنة لتواجه تراجيديا عائلية كانت حلّت في هذا المكان: وفاة ابنتها الصغيرة غرقاً. حولها، عدد من القصص ستتشابك… صوَّر غيديغيان الفيلم في بلدة كالانك دو ميجان (القريبة من مرسيليا، مسقط المخرج والحاضنة الجغرافية لكلّ أفلامه) سدّاًمنيعاً أمام أيّ تغيير، أو هذا ما كان يتراءى لسكّانه في أي حال. هذا المكان المعزول في فصل الشتاء، سيعكّر صفوه وصول بعض القوارب المحمّلة لاجئين، الذي بدوره سيستدرج العسكر. الديكور يقتصر على المرفأ الصغير والمطعم - المقهى وشرفة الفيللا وبعض الغرف. يعترف غيديغيان بأنه استلهم من "بستان الكرز" لتشيكوف. الشعور بالزمن محسوس كثيراً في "الفيللا"، وهي فضيلته الأساسية.


"دنكرك" لكريستوفر نولان

نولان سينمائي مادي بمعنى ان ما يقدّمه صنو حقيقة ما، من دون ان يشغله بالضرورة همّ الواقعية. القماشة البصرية التي طمح اليها في "دنكرك" لا يمكن الحصول عليها بالصورة ذات الدقة العالية، انما بوسيط ملموس هو الشريط. نولان يقدم فيلماً مشهدياً يقوم على دوران لا يتوقف. نضع رجلنا في مسرح الحوادث بلا أي مقدّمات. يقول الفيلم من جملة ما يقوله ان الموت هو القاعدة، وليست الحياة سوى استثناء، معجزة، مصادفة. الحرب تُعاش لحظة بلحظة، لا تُشرح ولا تُحكى. بناءً على هذا، أراد المخرج فيلماً عابراً للرواية الحربية الكلاسيكية. عمل لا ينطوي سوى على لحظات ذروة. الفيلم بأكلمه هو عن عملية سحب القوات البريطانية من شاطئ دنكرك، التي تمت بعد تصاعد خوف تشرشل من الألمان. من العدو النازي الذي يتربّص بهم لن نرى شيئاً قطّ. سنكتفي بالرصاص الذي ينهمر على رؤوسهم. نولان يختار تصوير ردّ الفعل على الوجوه التي تحدق في السماء، في كامل رعبها وفي تلاشيها. يختصر المخرج الحرب بمستواها الغريزي الأبسط: الرغبة في البقاء على قيد الحياة.


"واجب" لآن ماري جاسر

"واجب" فيلم طريق يعتمد على بناء سردي مكثّف. السيارة هي شخصية محورية، فهي تحمل كائنين (أب وابن - محمد بكري وصالح بكري) اتفقا على عدم الإتفاق، وهما مجبران على التعايش على الرغم من الاختلاف الكبير في نظرتهما إلى الأشياء، من أبسط قضية وصولاً إلى الصراع مع إسرائيل. بناءً على هذا، يطرح الفيلم أيضاً مسألة صراع الأجيال. جاسر تجد نفسها في الشخصيتين، فهي حيناً الأب وحيناً الابن. من خلال رحلة عبر الناصرة، تصوّر جاسر الأوضاع التي يعيشها أهل المدينة الفلسطينية. نحزن على المأساة التي تطل برأسها بين حين وآخر، وهذا لا يمنعنا من الضحك على عبثية المواقف التي يجد أهل المنطقة أنفسهم فيها. وكم الضحك ضرورة هنا لتجاوز الحالة المزمنة التي يعاني منها الجميع. اللافت ان "واجب" لا يحوّل أياً من هذا كله إلى تسجيل موقف بليد أو إستهزاء وسينيكية. واذا كان "واجب" فيلم طريق، فالطريق هنا بلا بداية أو نهاية، على شاكلة هذا الفصل من حياة هذين الشخصين اللذين يزوران بيوت الأقارب والأصحاب لتسليم دعوات إلى عرس (عرس شقيقة شادي). التسليم يجب ان يكون باليد، وفق التقاليد الفلسطينية المتبعة. "واجب" فاز بجائزة أفضل فيلم عربي في مهرجان دبي ٢٠١٧.


"جلود" لإدواردو كازانوفا

فيلم مفاجئ عن السويّة الاجتماعية، يلعب على المشاعر ويستغلّ المساحة غير المستغلة فينا، ليتركنا على حيرة طوال فترة بعد الخروج من الصالة. مخرجه الاسباني ادواردو كازانوفا (من مواليد ١٩٩١) صاحب أسلوب عارم، يعتمد في تجربته الإخراجية الأولى بعد سلسلة أفلام قصيرة، على قوّة الصور واللغة البصريّة. عُرض هذا العمل السوريالي الغريب (غرابة يهضمها الفيلم بسهولة)، في قسم "بانوراما"، ضمن الدورة السابعة والستين لمهرجان برلين، ولم يلقَ، يا للأسف، الاهتمام الذي يستحقّه من جانب الصحافة والنقّاد. "جلود"، زاخر بالشخصيات التي لا نراها في أفلام كثيرة. إنها أصحاب الإعاقات الجسدية والعاهات والتشوّهات الخلقية: فتاة "فتحة شرجها" على وجهها، ووجهها في مؤخرتها! شابة أخرى ولدت بلا عينين. رجل برأس محروق. شاب يحلم ببتر ساقيه لاعتقاده بأنّهما ليستا ملكه. شخصيات همّشتها الحياة. نحن أمام سيناريو يتنقّل بين الشخصيات ليضعنا في إطار من الجماليات المركّبة والمصطنعة، حيث يتم استحضار "الجمال" واستجوابه. لن يكون هناك كيلوغرام من الرأفة والتضامن والعطف تجاه هؤلاء المنبوذين المكروهين المتروكين لعزلتهم المريضة، بل المزيد من الاحتقار مع كل مشهد جديد. الفيلم نفسه غارق في ألوان الباستيل المصطنعة، كحبة بونبون، من زهر وبنفسجي وتدرّجاتهما، كأنه نوع من بيان تأسيسي للجمال يرفع شعار الكيتش والزيف، ولا يلبث أن يتحوّل سخرية ما بعدها سخرية. في حين أنّ على الشخصيات التعايش مع ألمها تحت قبّة نظم الجماليات القامعة هذه.


"أم مخيفة" لآنا أوروشادزه

المخرجة الجورجية الشابة - ٢٧ سنة فقط لا غير - صاحبة خطاب بصري متماسك، هي ابنة مخرج معروف في جورجيا. انطلق الفيلم من لوكارنو في آب الماضي (نال فيه جائزة العمل الأول)، ثم مرّ في ساراييفو (فاز بالجائزة الكبرى)، قبل أن يحطّ في مهرجان الجونة حيث فاز يجائزة. نحن إزاء عمل بسيكولوجي يصوّر ربة منزل خمسينية تُدعى مانانا (أداء لافت لناتو مورفانيدزه) تضع كتاباً يحرّك المياه الراكدة في حياتها ويثير حفيظة أهلها ومحيطها ضمن مجتمع يمتلك بنوداً وسلوكيات خاصة به. يهيمن على الفيلم مناخ القلق والريبة. تتطوّر الأحداث في جو من الضغط النفسي. هذا كلّه يشي بموهبة أكيدة في صناعة السينما والتعبير من خلال لغة الصورة.  


"هاوستن، لدينا مشكلة!" لجيغا فيرك 

في ذروة الحرب الباردة والسباق المحموم بين أميركا وروسيا على غزو الفضاء، يطوّر الرئيس اليوغوسلافي تيتو برنامج الفضاء اليوغوسلافي، برنامج يثير انتباه الأميركيين، فيشترونه ضمن صفقة قيمتها مليارا دولار ونصف مليار، معتقدين أنّه أكثر تطوّراً من برنامجهم. إلا أنّ هذا كله يجب أن يبقى في سرّية تامة (ما يفسّر أنّ أحداً لم يسمع عنه من قبل)، حفاظاً على سمعة الأميركيين. فمن خلال مادة أرشيفية هائلة (أُخرجت من سياقها التاريخي) ومستندات تدّعي أنّها "سرية للغاية"، ركّب المخرج ميثولوجيا شعبية كاملة الأوصاف - حيناً تأخذ هيئة السبق الصحافي وحيناً تغرق في الطرافة - عن ظروف الصفقة التاريخية المزعومة وكواليسها، من محادثات هاتفية بين الرؤساء وتهديد، فأعمال مخابراتية، إلخ.

يمكن اعتبار "هاوستن، لدينا مشكلة!" لجيغا فيرك، أمتع ما تسنّت لي مشاهدته في العام ٢٠١٧ (الفيلم من انتاح ٢٠١٦). ويعود هذا إلى إيقاعه المتواتر الذي يعرف كيف يربط الحوادث بعضها ببعض، وأيضاً إلى كونه ينطوي على بعض الخفّة، وهذا لأنّ الفيلم في الأساس يتحدّر من صنف هامشي نادر الوجود وهو الوثائقي الزائف، أو الـ"موكومنتري" كما تسميه اللغة الإنكليزية. الفيلم يذكّر بعض الشيء بـ"عملية القمر" لوليم كاريل (٢٠٠٢)، ذاك العمل الذي عرضته محطة "آرتي" ذات مساء، مدّعيةً أنه وثيقة مهمّة تكشف أسرار وصول الأميركيين إلى القمر وحقائق هذا الإنجاز، قبل الإعلان في الختام أنّ كلّ ما جاء فيه تلفيقٌ لا يمت إلى الوقائع. بالتأكيد، فيلم كهذا هدفه الأكبر هو تبيان مدى قدرة الإعلام على تضليل الرأي العام، فمَن يملك الصورة يملك السلطة.


"شكل المياه" لغييرمو دل تورو

هذا العمل الذي باركه النقّاد منذ اللحظة الأولى لعرضه في الـ"موسترا" (نال "الأسد الذهب")، ينتمي إلى الفانتازيا. عرضه قطع الحبل مع الأفلام الواقعية التي غلبت عليها السمة الإجتماعية المعروضة في المهرجان الإيطالي. فـ"شكل المياه"، عن علاقة غرائبية تربط كائناً برمائياً بموظفة بكماء (سالي هوكينز). تجري الأحداث في أميركا خلال الحرب الباردة. يكمن جمال الفيلم في رشاقته الإخراجية وإتقان الممثلين لأدوارهم، يُضاف اليهما نصّ أوريجينال ومونتاج متداخل لا يترك مساحة لبرهة تائهة. القصة تأتي بجرعة انفعالات غير قليلة تتضمن احالات سينيفيلية. هناك مقاربة لتيمة التوحش في السينما، مع شيء من الفيتيشية الجنسية المحببة التي تجعل فتاة طيبة القلب تقع في حب مخلوق برمائي. على الرغم من حرفته الكبيرة وجرأته، لا يناقش الفيلم قضية ملحّة، الا ان اسناد جائزة إليه، يُعتبر لفتة جميلة لسينما الـ"جانر" الذكية، التي تقع أحياناً ضحية سطوة "سينما المؤلف"، أقله في المهرجانات. ما نتابعه على الشاشة حكاية بالمفهوم التقليدي، يقول الخلاّق الكبير دل تورو انه يتصدى للسينيكية من خلالها. يستخرج المكسيكي القدير الطفل من داخل الوحش، والوحش من داخل الطفل.  


"قابلة" لمارتان بروفو 

اللقاء بين الكاترينين، دونوف وفرو، يحدث ما يحدثه أمام الشاشة من شرارة. هذا أساسي في الفيلم. لكن مارتان بروفو يقفز فوق هذا ويذهب أبعد من الكيمياء التي تنم عن اللقاء الذي يسلك اتجاهات غير متوقعة. طبعاً، نحن في فيلم فرنسي بكلّ تفاصيله، بكلّ ما في إرث السينما الفرنسية من تصميم على ضرورة ان تتسلم الشخصيات مصيرها، بدلاً من الارتطام بحضن الحبكة التي ستجرهم إلى سلسلة مفارقات. هذا بديهي نظراً للخلفية الأدبية للمخرج المؤلف. فيلم بروفو بديع، بسيط، جذّاب... فيلم مؤلم عن غبطة الوجود، وفيلم مبهج عن طعم الفراق المر. وهذا كله يشبه دونوف، طبقة صوتها، بورجوازيتها، مشيتها. بروفو يستمد منها الكثير. لسوء حظه، لم يأخد الفيلم حقّه من الانتشار. المصالحة مع الحياة والإذعان لظروفها أشبه بمخاض هنا. التناقض هو سمة "القابلة"، بين المساعدة على الخروج إلى الحياة التي تصبح شيئاً فشيئاً مهنة آفلة مع مكننة كلّ شي من جهة، والمرض الخبيث المتسلل إلى جسد كاترين دونوف من جهة اخرى. هذا التناقض هو الذي يجمع في الأخير، ويمد يده إلى شخصين كي يترافقا لفترة من الزمن، قبل الفراق الكبير.