يعتقد السواد الأعظم من المسلمين بأن التصور الشائع عن "مبدأ الثواب و العقاب" والذي يقتضي أبدية الجزائين (الجنة والنار)، هو تصور منجز وقطعي ولا يجادل فيه إلا أهل البدعة وسروات الضلال.
 
وهذا الحكم راجع لكون أولئك الذين خالفوا التصور السائد ليسوا إلا قلة على رؤوس الأصابع.
 
في كتابه "الفصل في الملل والأهواء والنحل"،يقول ابن حزم: "اتفقت فرق الأمة كلها على أنه لا فناء للجنة ولا لنعيمها، ولا للنار ولا لعذابها، إلا الجهم بن صفوان وأبا الهذيل العلاف وقوماً من الروافض".
 
لكن البحث المعمق في تاريخ الفكر الإسلامي يكشف عن آفاق للتأمل في أصوات قدّمت تصوراً مغايراً لما هو سائد عن ثنائية الجنة وجهنم، تتناول المقالة ما جاء بشكل خاص عن مسألة خلود الناس (الكفار) في النار.
 
 
تساؤلات حول تصور النار والجنة
لا أحد ينكر بأن النصوص النقلية—سواء من القرآن أو الحديث—جاءت تدلّ في ظاهرها على أبدية النار (يمكن الاطلاع على تفاصيل أكثر عن الموضوع في مقالة "مسألة فناء النار")، إلا أن التطور الإنساني على المستويين الفكري والأخلاقي سلط الضوء على بعض التساؤلات حول هذه القضية، تساؤلات كانت موجودة منذ الفجر الإسلامي لكنها أضحت ملحّة، واستدعت أجوبة جديدة:
 
هل تخليد الناس في جهنم إلى الأبد من أجل جرم ارتكبوه لفترة زمنية محدودة هو أمر يتعارض مع عدل الله ورحمته وحلمه؟
 
هل هذه النصوص التي تدل في ظاهرها على أبدية النار هي نصوص قابلة للتأويل والحمل على وجه آخر غير ظاهرها أم لا؟ وهل هي نصوص تعتبر مناكفة للمنطق والأخلاق؟ وأخيراً هل هناك نصوص أخرى تدل على عدم أبدية جهنم في القرآن والحديث؟
 
فيما يلي تحاول المقالة تقديم بعض الإجابات على هذه التساؤلات من خلال التعريف بثلاث نظريات إسلامية لا تؤمن بالعذاب الأبدي.
 
نظرية فناء الجنة وفناء النار
يصنّف الجهم بن صفوان كواحد من أهم الشخصيات التي كان لها بصمة واضحة وتأثيراً بالغ الأهمية على العقلية البرهانية المسلمة، فهو يعتبر أباً روحياً لمعظم الفرق الكلامية، وقد ذهب الجهم بن صفوان إلى أن الجنة و النار تبيدان في النهاية، واعتمد حججاً كلامية وأخرى مستوحاة من القرآن الكريم.
 
فالخلود عنده متعذّر في حق المخلوقات كلها، من بشر وملائكة وجمادات، وديمومة هذه المخلوقات أو تخليدها سيجعلها مشاركة لله في صفة البقاء لا محالة، علاوة على ذلك فقد استشهد الجهم بهذه الآيات من سورة هود : "فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق (*) خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد (*) وأمّا الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ".
 
حيث يجد الجهم في هذه الآيات دلالة واضحة على فناء النار والجنة معاً، لأنها آيات تفيد بأن الخلود معلق على شرط دوام السموات والأرض، وكذلك ورد فيها استثناء للمشيئة الربانية ومن دون هذا لن يوجد خلود لا في النار ولا في الجنة.
 
الجدير بالذكر أن الجهم بن صفوان قد تم تكفيره بسبب بعض أفكاره مثل القول بخلق القرآن، وهذا التكفير تمّ على يد علماء كثر في مقدمتهم أحمد بن حنبل، وهذا ما جعل نظريته حول الجنة والنار عرضة للتهميش والإعراض وخاصة في شقها الذي يتضمن فناء الجنة أيضاً، وهذا ما يعتبر من جنس الكفر البواح في عرف الفقهاء، ومع ذلك يبقى هناك اعتراف بأن الجهم صاحبٌ فكر عظيم وخلّاق. 
نظرية فناء النار وبقاء الجنة
تقتضي هذه النظرية فناء النار وبقاء الجنة إلى ما لانهاية، فالمسلمون في الجنة لا يخرجون منها دون أدنى ريب، أما المشركون فسيمكثون في جهنم إلى أن يشاء الله، حين يأمرُ جهنم بابتلاعهم، فهي إذاً عقيدة عن الثواب والعقاب تشبه إلى حد ما عقيدة "الخلاص العام" عند بعض الأقليات المسيحية التي تؤمن بأن الجنة دار خلود خالصة للمؤمنين برسالة المسيح، أما الذين لم بؤمنوا به فمصيرهم هو العدم والحرمان من الحياة الأخروية لكن دون تعرضهم لأي عذاب حسي.
 
غالباً ما يتم عزو نظرية فناء النار لابن قيم الجوزية، حيث استعرض هذا الأخير في كتابه "حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح" مجموعة من الأدلة التي تنحو إلى القول بفناء جهنم واندثارها ولو بعد حين، ونظراً لعقلية ابن القيم البيانية التي تمجد ظاهر النص فقد كثّف من البراهين ذات الطبيعة النقلية (الآيات و الأحاديث).
 
كما أكد بأن للرب كامل الصلاحية في التراجع عن وعيده بتعذيب العباد رحمة منه ولطفاً لا تقصيراً وضعفاً، وذهب إلى أن هذه الآية من سورة النبأ: "لابِثِينَ فيها أَحْقَاباً" قد حددت عملياً مدة العقاب الجهنمي وهي الحقب الكثيرة المتتالية، وبالتالي فقد دلّ النص إلزامياً على عدم استمرارية العذاب، واحتج أيضاً بآية أخرى في سورة الأنعام:"قال النَّارُ مَثْواكم خَالدين فيها إِلا ما شاءَ اللَّه إِنَّ ربكَ حكيمٌ عليمٌ".
 
يستمر ابن القيم في تدعيم نظريته وهذه المرة يقوم بسوق بضعة أحاديث منسوبة إلى بعض الصحابة كابن عمرو وابن عباس وأبي سعيد وغيرهم، ومنها للتذكير لا للحصر قول أبي هريرة: "ما أنا بالذي لا أقول أنه سيأتي على جهنم يوم لا يبقى فيها أحد".
 
ولا بد من الإشارة إلى أنّ ابن القيم عنده كلام متناقض في هذه المسألة، ففي كتابه "الصواعق المرسلة" يقول ابن القيم بأبدية النار وبالتالي يصعب معرفة أي الكلامين هو ناسخ للآخر.
 
وقد مال الباحث علي الحربي، في كتابه "كشف الأستار لإبطال ادعاء فناء النار" بأنّ ابن القيم استقرّ في النهاية على القول بأبدية النار! إلا أنه لا أحد يملك الجزم بكل تأكيد ومن المرجح أن يكون قد استقر على القول بفناء النار كما يراه باحثون آخرون.
 
نظرية انقلاب العذاب إلى عذوبة
يتمتع محي الدين ابن عربي أو "الشيخ الأكبر" كما يطيب للبعض تسميته، بشهرة واسعة في الأوساط الإسلامية قاطبة، كما أنه قد نال حظوة تكاد لا تكون لغيره من المتصوفين، وما هذه الألقاب العظيمة التي انتزعها من أفواه أتباعه إلا برهان جلي على ذلك.
 
في كتابه "الفصوص المكية"، الذي لا يقل شهرة عن مؤلفه، أورد ابن عربي نظرية غريبة عن جهنم؛ حيث لم يقل بفناء النار، ولكنه اعتبر بأن الله عندما سيعاقب المستحقين للعقاب بما هو عادل في حقهم، سيضفي على أجسامهم طبيعة غريبة تمكنهم من الاستمتاع بعذاب النار واستعذابه، وحتى لو خيروا حينها الخروج من جهنم لرفضوا.
 
إن هذه النظرية تعتبر نظرية مختلفة عن سابقتيها؛ لأنها تتناول القضية من حيث الكيف وليس الكم، وبالتالي لا تخلق أية مشاكل مع النصوص التي تصرح ظاهرياً بالعذاب الأبدي، كونها لا تعترض لا على محمول (العذاب) ولا موضوع (الأبدية) قضية العذاب الأبدي وبالتالي فإن النظرية تعتبر تامة، ليبقى مشكلها الوحيد هو مشكل أخلاقي صرف. 
 
ولكن هناك من اعترض على هذه النظرية من المتصوفة، مثل الشعراني الذي زعم بأن هذا القول منحول على ابن عربي وأن الشيخ لم يقل بهذه النظرية مطلقاً، وغاية ما في الأمر أنها نظرية مدسوسة في كتاب الفصوص، إلا أن الشعراني لم يقدم أية أدلة جازمة على زعمه، واكتفى بالقول بأنها نظرية تتعارض مع النصوص وأن الكثير من أتباع ابن عربي قد تراجعوا عنها.
 
ولكن الكثير ممن شرحوا الفصوص يؤمنون يقيناً بأن النظرية تعود للشيخ وأنها نظرية محكمة ولا تتعارض مع النصوص أما باقي الافتراضات التي تشكك في نسبتها لابن عربي فهي مجرد ادعاءات تفتقر إلى أي نوع من الإقناع.
 
والحاصل أن مسألة الخلود في النار هي مسألة خلافية، وقد تضاربت فيها أقول الفرق الإسلامية على سبعة أقوال ذكرها ابن أبي العز في شرحه للعقيدة الطحاوية، كما أن النصوص يمكن الإحتجاج بها على الخلود وعلى الفناء أيضاً فكان من الضرورة اللجوء إلى التأويل للبحث فيها؛ لأنه هو بيضة القبان التي توفق بين النصوص المتعارضة (ظاهرياً) من جهة، ثم بين النصوص والعقل من جهة أخرى.
 
والبحث في ماهية الخلود، إنما هو دليلٌ على غنى المساحة الفكرية في التاريخ الإسلامي، وعلى الحوار والنقاش الذي لم ينقطع حتى اليوم.
 
 
 
 

محمد ياسين