استدعت مشكلة ارتفاع الأقساط المدرسية في المدارس الخاصة، بعد إقرار قانون سلسلة الرتب والرواتب، ثلاثة مواقف بارزة.  

الموقف الاول عبرت عنه نقابة المعلمين و"الحملة الوطنية لدعم لجان الاهل وأولياء الامور"، وهو يطالب بالتدقيق في موازنة المدارس تطبيقا للقانون 96/ 515، ولا سيما ان المدارس، بحسب أصحاب هذا الموقف، قد رفعت من إقساطها بما يعادل المئة في المئة في السنوات السابقة تحسبا لسلسلة الرتب والرواتب.

الموقف الثاني عبّر عنه وزير التربية مطالبا بتقسيط زيادة الاجور على ثلاث سنوات.

الموقف الثالث ينادي به قسم من لجان الاهل، ويقضي بأن تتولى الدولة دفع الزيادات على اجور المعلمين. ويتقاطع هذا الموقف مع ما تطالب به المدارس الكاثوليكية ويشجعه البطريرك الماروني في عظاته، ولا سيما بعدما فتح رئيس الجمهورية الباب امام هذا الطرح في احد لقاءاته مع الأهالي.

الغائب الاكبر عن هذه المقاربات هو الدور الاساسي للمدارس الرسمية في معالجة مشكلة الأقساط المدرسية وارتفاع اكلاف التعليم. فباستثناء موقف رابطة المعلمين في التعليم الرسمي الاساسي، وبعض المواقف الفردية والصحافية (فاتن الحاج في "الأخبار" مثلا) يلزم الاتحاد العمالي العام والحركة النقابية بشكل عام الصمت تجاه هذا الموضوع. حتى ان بعض التيارات السياسية المعارضة التي ترفع شعار الدولة المدنية، مرت مرور الكرام امام هذه القضية في أطروحاتها الانتخابية، وكأنه يمكن بناء دولة مدنية بدون تعليم رسمي عام.

قد يجيب البعض ان المسألة ملحة ولا تتحمل انتظار عملية تأهيل المدرسة الرسمية كمّا ونوعا لاستيعاب تلامذة المدرسة الخاصة غير القادرين اهلهم على تحمل أعباء التعليم.

في هذا الكلام شيء من الصحة. لكن المسألة تتجاوز بخطورتها هذه المرحلة الملحة. فما هو مطروح يطال السياسة التربوية للدولة بشكل عام.

الموقف الاوضح والأكثر تفصيلا في هذا الشأن هو موقف البطريرك الماروني. فهو قال برسالته الميلادية ما حرفيته: "(على الدولة) ان تتولى دفع فروقات رواتب المعلمين الناتجة من سلسلة الرواتب الجديدة وتمنع بالمقابل من رفع الأقساط المدرسية". لكنه لا يكتفي بهذا الحد بل يضيف ان "على الدولة على المدى الطويل ان تدعم رواتب المعلمين في المدارس الخاصة مثلما تؤمن كامل رواتب المعلمين في المدارس الرسمية".

ما الذي يبرر موقف البطريرك هذا؟ الجواب عند البطريرك نفسه: "من واجب الدولة ان تدرك انها مسؤولة عن تعليم اللبنانيين بحكم الدستور وتعتبر ان المدرسة الخاصة ذات منفعة عامة". الموقف مبدئي وليس محصورا بالمرحلة الحالية وهو يعبر عن نظرة راسخة إلى السياسة التربوية للدولة.

الامر ليس بالجديد. فالتعليم الرسمي حديث العهد اذا ما قيس بالتعليم الخاص الذي سبقه بثلاثة قرون ونيف. وعندما انشئت المدارس الرسمية، بداية على يد العثمانيين، ولاحقا على يد سلطة الاستقلال، راحت تتوسع ببطء وبخجل وخاصة في المناطق التي خلت من المدارس الخاصة.

التوسع الاهم حصل في الفترة الشهابية من ضمن سياسة إنمائية انتهجها العهد في حينه وأدت إلى أن يقارب عدد التلاميذ في الرسمي ما نسبته الـ40 في المئة من العدد الإجمالي في لبنان.

وعلى رغم وضع الدراسات والخطط في بداية السبعينات لتطوير التعليم الرسمي، الا ان الحرب حالت دون تنفيذ الإصلاحات، وتراجع التعليم الرسمي كمّاً ونوعاً امام التعليم الخاص، ولا يزال وضعه حتى اليوم مترنحا يستجدي الدعم من دولة ما برحت تضعف لصالح الطوائف والمذاهب بميليشياتها وأحزابها.

كانت الطوائف، المسيحية خصوصا، سباقة ايضا في التعاطي مع قضية مجانية التعليم منذ القرن الثامن عشر. فقد أنشأت نوعين من المدارس: المجانية التي يرتادها أولاد الفئات الشعبية وغير المجانية التي يرتادها أولاد الفئات الميسورة. وفي حين تولت سلطة الانتداب مساعدة الطوائف والارساليات في إنشاء المدارس، في الربع الأول من القرن العشرين، أخذت دولة الاستقلال على عاتقها دعم المدارس الخاصة المجانية، وقد أصدرت من اجل ذلك سنة 1956 قانونا ينظم هذه المدارس.

المدارس الخاصة غير المجانية، الكاثوليكية خصوصا، كانت تطمح إلى أكثر من ذلك، فطالبت منذ الاستقلال بأن تتولى الدولة تحمل جميع الأعباء المالية المتعلقة بالهيئة التعليمية. وبقيت هذه المطالبة حية وتتجدد عند كل مرحلة ترتفع فيها الأقساط المدرسية. لا عجب في ذلك فهي أفضل الطرق لمنع المدرسة الرسمية من منافسة المدرسة الخاصة تحت ضغط الضائقة الاقتصادية. وبهذه الطريقة تحاول القوى الطائفية منع التطور الاجتماعي الاقتصادي من المس بوظائف الطوائف وسلطتها ولا سيما التربوية منها.

ففي نهاية الستينات طرح لهذا الغرض مشروع "الضمان التربوي" الذي يؤمّن التعليم المجاني في الخاص بموجب "بطاقة تربوية". وفي سنة 1983 أقر المرسوم الاشتراعي رقم 95، ويقضي بمساهمة الدولة في دفع رواتب الهيئة التعلمية وأجورها في المدارس الخاصة، في اطار عقد يبرم مع المدرسة وتخضع بموجبه هذه الاخيرة الى الاشراف المالي والتربوي.

الحركة النقابية اللبنانية ممثلة بالاتحاد العمالي العام ولاحقا بالمؤتمر النقابي الوطني العام، الذي ضم نقابة المعلمين في الخاص وروابط المعلمين في الرسمي، رفضت مشاريع دعم الدولة للمدارس الخاصة. هذا الموقف الذي اسس له في المؤتمر النقابي العام سنة 1980 وفي عز الحرب، طالب "بتعميم التعليم المجاني حتى أعلى المستويات عن طريق زيادة عدد المدارس الرسمية وتحسين نوعية التعليم فيها". وقد جاء ذلك في إطار شعار "ديموقراطية التعليم". كما طالب المؤتمر بـ"خفض الأقساط المدرسية ونفقات التعليم في ضوء تحليل موضوعي لتكاليفها".

للاسف لا يبدو موقف الحركة النقابية حاليا بهذا الوضوح، بل يغلب عليه مهادنة السلطات، المنحازة بدورها إلى المدارس الخاصة ذات المرجعيات الطائفية.

في اساس موقف المدارس الكاثوليكية، وغيرها من المدارس الخاصة التابعة للطوائف، هو اعتبارها، وكما رأينا في رسالة البطريرك، ان التعليم حق دستوري وان المدرسة الخاصة "ذات منفعة عامة".

اذا أخذنا في الاعتبار المعيار الكمي، يجد تصريح البطريرك بعض ما يبرره اذ يشكل تلامذة التعليم الخاص غير المجاني نحو 50 في المئة من إجمالي التلاميذ، إضافة إلى 13 في المئة في التعليم الخاص المجاني.

لكن اذا أخذنا مفهوم "المنفعة العامة" بمعناه الوطني، فقد دلت معظم الابحاث الاجتماعية على الدور السلبي الذي تلعبه التربية في المؤسسات التابعة للطوائف، في ما يتعلق بالوحدة الوطنية وبناء المواطنية اللبنانية.

واذا كانت التربية في مؤسسات التعليم الرسمي قد لعبت دورا معاكسا في مرحلة ما قبل الحرب، الا ان سيطرة البيئات المذهبية على المدارس الرسمية في ظل تراجع دور الدولة ومركزيتها ورقابتها بعد الحرب، جعلت هذه المدارس عرضة للتأثيرات الطائفية والمذهبية في انتماءات تلاميذها وفي برامجها وتوجهاتها العامة.

في هذا المعنى أصبح التعليم بشكل عام، في فرعيه الخاص والرسمي، ولو بدرجات متفاوتة، مذهبيا ومناطقيا، عاجزا عن لعب دوره في بناء المواطنية وتعزيز الوحدة الوطنية.

من نتائج احدى الدراسات الجدية التي صدرت سنة 1980 (وهبة والامين، نظام التعليم في لبنان والانقسام الطائفي)، ان المتخرجين في المدارس الطائفية هم محافظون وتقليديون أكثر من المتخرجين في المدارس الرسمية.

في ظل هيمنة البيئات المذهبية على المدارس الرسمية، لا يتوقع ان تأتي دراسات مماثلة اليوم بالنتائج نفسها.

التعويل الاهم يبقى على من يقف في الموقع الاستراتيجي في العملية التربوية، بين الإدارة والتلاميذ، اي على المعلمين في الرسمي والخاص، وهم من خاض معركة سلسلة الرتب والرواتب بنجاح نقابي ونضالي نادر في ظروفنا الحالية. فهل يبلور هؤلاء سياسة تربوية توفق بين ديموقراطية التعليم ووطنيته، على بعد أيام من اجتماع حكومي من المفترض أن يناقش المسائل التربوية المطروحة؟ هل يبلور هؤلاء سياسة تربوية، تشدد الرقابة الرسمية على موازنات المدارس الخاصة بمشاركة لجان الاهل، وتحسن من الإمكانات المادية والتعليمية للمدارس الرسمية، وفي الوقت نفسه تحرر هذه المدارس من الهيمنات المذهبية؟

التحدي كبير في ظل وقت ضاغط، وقوى رسمية وسياسية ونقابية غير مساندة.