لا يبدو أن شيئاً تغير منذ ثمانية وعشرين عاماً يوم تقلد علي خامنئي منصب ولاية الفقيه، خلفاً لمؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران الخميني. فالتسجيل المثير المسرب عشية الذكرى الأولى لوفاة الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني، حول وقائع حلول خامنئي مكان الخميني، حمل اعترافات بالصوت والصورة لخامنئي تثبت المتداول عن تواضع قيمته المعرفية والعلمية.
في التسجيل الذي يعود إلى 3 يونيو (حزيران) 1989 بعد ساعات قليلة من إعلان وفاة الخميني، يعترف المرشد الحالي لإيران أن ترشيحه لخلافة الخميني يعاني من «إشكالات أساسية» وأنه لا يملك الأهلية، وأنه يفتقر إلى المشروعية الشرعية كونه ليس مرجع تقليد أو مجتهداً جامعاً للشروط. ويضيف، بحسب ما نشرته «الشرق الأوسط»، «يجب أن نبكي دماً على حال الأمة الإسلامية لو انتخب شخص مثلي لمنصب القيادة».
الشريط يثبت مرة واحدة وأخيرة السر المعلن عن تواضع خامنئي ولعبة السلطة التي لعبها رفسنجاني، محاولاً أن يمسك إيران عبر شخصية ضعيفة تابعة له في موقع المرشد، ليكون هو الحاكم الفعلي في موقع القيادة السياسية، وهي لعبة دفع أثمانها الغالية لاحقاً. فعائلة رفسنجاني، بعد طول تنكيل سياسي به، تتهم ضمناً النظام بقتله، ويشاركها في الشكوك الرئيس الإيراني حسن روحاني، الذي طالب بإعادة فتح تحقيق في ظروف وفاة ثعلب السياسة الإيرانية.
تواضع خامنئي الذي أقر هو به في بدايات صعوده، قدم عليه دليلاً قبل أيام وهو في خريف تجربته السياسية، وربما في خريف النظام نفسه. فإثر المظاهرات المناهضة للنظام، التي اندلعت في 28 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أقدم المجلس الأعلى للتعليم الذي تديره الدولة على منع تعليم اللغة الإنجليزية في المدارس الابتدائية الحكومية وغير الحكومية، بدعم مباشر من خامنئي، درءاً لمخاطر «الغزو الثقافي الغربي». وكان خامنئي عبر مراراً عن استيائه من «امتداد تدريس اللغة الإنجليزية إلى رياض الأطفال».
في الواقع لطالما كانت اللغة موضوعاً مركزياً في دراسات ما بعد الكولونيالية. إدوارد سعيد، أبرز رواد هذا الحقل المعرفي انحاز، على خطى الفرنسي ميشال فوكو، للربط بين السلطة والمعرفة، في أطروحته حول نقد الاستشراق، والذي تعامل معه كآلية هيمنة عبر وسائط عدة أبرزها اللغة. الاستشراق كما قدمه سعيد، تجاوز كونه مصطلحاً محايداً لوصف البحوث حول الشرق، أو المخيال الفني التصويري للشرق، إلى كونه مسمى لممارسة غربية آيديولوجية، اختزالية، تحدد مواصفات كلية لهذا الشرق، قوامها التخلف والبربرية واللاعقلانية، تسمح بالتالي للغرب أن يقدم صورته الكلية المقابلة، بمواصفات قوامها العقلانية والتقدم والمدنية. اللغة بهذا المعنى «السعيدي»، وتوظيفاتها الكولونيالية، بفرضها إلزامياً على غير الناطقين بها، هي وسيط يحدد مراتب الدونية والتفوق بين المستعمِر والمستعمَر.
وأدبيات الثورة الإيرانية لا تخلو من مرجعيات أخرى حول العلاقة بين اللغة وهوية الثقافة الوطنية ودورها في صناعة وعي «أنتي - كولونيالي». أبرز المساهمات في هذا السياق ترجمات علي شريعتي لكتابات فرانز فانون، والتي استلهمها الخميني لاحقاً ووظفها في خطاب الثورة ودعايتها.
غير أن موقف خامنئي من الإنجليزية لا يصدر عن هذه الخلفيات بقدر صدوره عن تواضعه المعرفي والثقافي الذي للمفارقة كان من أسباب صعوده، إلى حيث هو اليوم. فليس ما يدعو للفخر أن تعود ثورة عمرها أربعة عقود إلى آليات مواجهة تحف عادة ببواكير الثورة وأيامها الأولى، كالعزوف عن لغة المستعمر أو لغة الاستكبار، والمبالغة في التعبير الحاد عن الهوية الخاصة من باب اللغة الأم أو غيرها من مكونات الهوية الوطنية.
واللافت أن تعبر إيران خامنئي عن هذا الرُهاب الكولونيالي، فيما خطابها السياسي ينم عن كولونيالية مشوهة، طريقها الميليشيات والقوة الصلبة فقط. تخاف إيران من قوة أميركا الناعمة، بحسب تعبير جوزيف الناي، وهي اللغة الإنجليزية هنا، فيما هي تتفاعل مع العالم بقوتها الصلبة، في ظل عجز تام عن تقديم نموذج اجتماعي أو ثقافي يتجاوز السلاح و«الاستشهاد» والحرب الدائمة!
يلفتني مثلاً أن ليس في لبنان، الاستثمار الإيراني الأبرز، مطعم إيراني واحد يعتد به، كعلامة على أن النموذج الإيراني قادر على الإتيان بمعنى وقيمة خارج منتجات «الكولونيالية الميليشياوية» الإيرانية المشوهة. ليس هناك فيلم ولا مسرحية ولا أغنية ولا نص إيراني يصلنا، في حين أن معارض السجاد الإيراني السنوية، التي ترعاها السفارة في بيروت، تتقزم أمام محتويات محلات بيع السجاد القديم الفارسي والقوقازي والقبلي، في أحياء العاصمة اللبنانية!!
في موقفه من اللغة الإنجليزية بدا خامنئي بعيداً عن الجذر الثقافي لأطروحة اللغة الأم كمعادل لمقاومة الاستعمار. لا يحيلك موقفه على الاستعداد الكردي الحاد مثلاً للدفاع عن الكردية كلغة وهوية ومعنى وجود، أو على الناصرية وتعريب المناهج كجزء من رد فعل أنتي - كولونيالي أوسع. جاءت مساهمته بتزامنها مع المظاهرات الشبابية، ومنع نظامه لوسائل التواصل الاجتماعي، وبخلفيتها الرُهابية، أقرب إلى ضحالة مشهدية القذافي مطلع السبعينات وهو يحرق الآلات الموسيقية الغربية ويمنع الكتب الأجنبية في المؤسسات التعليمية، في سياق إعلانه «الثورة الثقافية» التي أصدر بعدها «الكتاب الأخضر» الشهير!