في شوارع إيران تصاعدت الهتافات المناهضة للحكومة: «الموت لارتفاع الأسعار» ومن ثم تحولت إلى شعارات مناهضة للنظام: «الموت للملالي»، وفي حين وصلت هذه إلى البث العالمي، كان هناك مزيد من هتافات الكراهية للأجانب، أبرزها: «نحن آريون ولن نعبد العرب». وكان لوحظ أن المظاهرات جرت في مدن يسكنها إيرانيون فرس، وليس في مناطق الأقليات الإثنية الأخرى.
المرشد «الأعلى» آية الله علي خامنئي قال: «عندما يحين الوقت فسأتكلم»، وذلك كي لا يكشف عن الصراع القوي الدائر في مراكز القرار داخل إيران. وفي جلسة البرلمان المغلقة يوم الأحد الماضي اعترف وزير الاستخبارات محمود علوي، بأن الاحتجاجات في مدينة مشهد بدأت بتيار سياسي محلي، ولم تكن منظمة من الخارج، وسرعان ما انتشرت في غضون ساعات وصارت خارج السيطرة.
أما انطلاقة هذه المظاهرات في مدينة مشهد المحافِظة، حسب مصدر إيراني من الداخل، فكانت للأسباب التالية:
خسرت 160 ألف عائلة في مدينة مشهد أموالها في مشروع «شانديز» السكني، وكان عبارة عن أكبر عملية نصب واحتيال، والمتورطون في السرقة مسؤولون في النظام، لم تتم محاسبتهم. أكثر البنوك الإيرانية التي أعلنت إفلاسها كانت في مدينة مشهد، وتجاهلت الحكومة الإيرانية مطالب الإيرانيين في قضية إفلاس البنوك وركزت على الاتفاق النووي.
بعد إيقاف الرحلات السياحية الدينية بين دول الخليج وإيران، خسر أهالي مدينة مشهد الآلاف من فرص عملهم واستثماراتهم، وأغلق كثير من المصانع الصغيرة والمحلات التجارية لأنها كانت تعتمد على الزوار الشيعة. وبعد حرق السفارة السعودية في طهران انتهى كل شيء. تعيش في مدينة مشهد أكبر جالية أفغانية وتنافس أهالي المدينة على فرص العمل، وبعد أزمة الإسكان وإفلاس البنوك وفقدان المدينة المداخيل السياحية وارتفاع الأسعار وازدياد نسبة البطالة، أصبح الفقر والإدمان ينهشان جسد هذه المدينة البالغ عدد سكانها 3 ملايين نسمة.
المطالب التي خرج لأجلها أهالي مشهد تتوفر أيضاً في أغلب مدن الأطراف التي انجذبت للاحتجاجات والمظاهرات أكثر من المركز، عكس ثورة عام 2009.
ما يميز هذه الحركة المجتمعية عن «الثورة الخضراء» التي شهدتها إيران عام 2009، هي أنها لا تعتمد على المركز في حراكها؛ حيث كان الثقل الثوري حينها في طهران وشيراز والمدن الفارسية الأخرى، وهمشت الأطراف لأسباب قومية ومذهبية.
«الثورة الخضراء» عام 2009 كان على رأسها قيادات واضحة مثل مير حسين موسوي ومهدي كروبي، وكان مطلبهم يدور حول الانتخابات فقط. لكن هذه الحركة الاحتجاجية الشعبية التي تشهدها إيران، وستظل تستعر، لا تمتلك قيادات سياسية، ولا مذهبية، وشعاراتها تجاوزت الإصلاحيين وبدأت تنادي بتنحي المرشد «الأعلى» عن السلطة.
كان الخميني مؤسس الجمهورية الإسلامية يستخدم العامل الاقتصادي لتحريك الشعب الإيراني ضد شاه إيران، وفي عدد من صحيفة «كيهان» قال الخميني: «إن الماء والكهرباء مجانيان. لن تضاف ضرائب، وكل إيراني سيحصل على سكن مجاني». إذن العامل الاقتصادي هو الأهم والأساس في إنجاح الثورات وإسقاط الأنظمة داخل إيران.
إن ما يميز الاحتجاجات الأخيرة هي أنها ليست مسيّسة لأي تيار أو حزب سياسي في إيران، وخلال يومين من بدئها استطاعت أن تنتشر وتتوسع إلى الجنوب والشمال والغرب وشرق البلاد، عكس «الثورة الخضراء» التي فشلت في الانتقال من طهران والمدن الكبرى إلى الأطراف واستطاع «الحرس الثوري» قمعها بسهولة.
المشاركون في «الثورة الخضراء» عام 2009 كانوا من الطبقتين المرفهة، والمتوسطة، ومن طلبة الجامعات الإيرانية. لكن اليوم، فإن الطبقة المسحوقة والفقيرة والتي تعيش تحت خط الفقر هي التي تقود هذه المظاهرات والاحتجاجات في إيران.
عام 2009 كان المتظاهرون غاضبين من تيار المحافظين وتزوير الانتخابات، وكان الصراع محصوراً بين الإصلاحيين والمحافظين. أما الآن فالمتظاهرون غاضبون على سياسة الحكومة الاقتصادية، وغاضبون على النظام السياسي الذي يقرره ويقوده خامنئي. لهذا كانت الشعارات توجه ضده وضد روحاني وأيضاً ضد قاسم سليماني، وتمزق صورهم.
أهم إنجاز لهذه الاحتجاجات حتى الآن أنها حذفت دور الإصلاحيين في هذا الحراك الشعبي. وفي حال استمرارها فستؤدي إلى تغيير النظام وليس الحكومة فقط!
لا أحد يستطيع أن يتكهن بما سيحدث غداً، و«الحرس الثوري» أيضاً جاهز لقمع هذه الاحتجاجات بالقوة المفرطة. لكن هناك ما حل بسوريا بسبب تحرك بعض الشباب في درعا، وكان يمكن استيعابهم والإصغاء إليهم، لكن، وبنصيحة إيرانية، اختار النظام السوري القمع والبطش والقتل، فقتل سوريا.
أيضاً المهم في هذه الاحتجاجات أن هذه الفئة المسحوقة التي تقودها، ليست لديها قيادة سياسية مركزية حتى يستطيع «الحرس» اعتقالها، وأيضاً ليس لديها ما تخسره، وهي جاهزة كي تصعّد وتدخل في مواجهات دامية مع «الحرس» والشرطة والأمن من أجل تحقيق مطالبها، عندها سيبدأ سيناريو سوريا في إيران.
يخبرني دبلوماسي عربي أنه كان في سوريا عندما بدأت أحداث درعا، وفي جلسة له مع وليد المعلم وزير الخارجية قال: «المشكلة التي نواجهها أنه ليس هناك قائد لما يجري في درعا، لم نسمح بأحزاب معارضة، ونواجه الآن عدم وجود شخص نتصل به للتفاوض معه على إيقاف ما يجري».
إضافة إلى ما تقدم، فإن من أسباب الاحتجاجات الأخيرة في إيران، هناك أيضاً عامل خلافة خامنئي؛ إذ اتضح أن الرئيس روحاني، وهو يظهر نفسه بالمقارنة على أنه مصلح ومعتدل، كان منافساً قوياً منذ فوزه الساحق في انتخابات العام الماضي، لهذا تصاعدت التحديات التي لم يسبق لها مثيل ضده من قبل المتشددين.
خاض روحاني حملته لإنقاذ الاقتصاد من خلال الاتفاق النووي، وإنهاء الدولة البوليسية عن طريق فتح وسائل الإعلام الاجتماعي الموجهة للعالم؛ هذه المرة تم تصميم المتشددين على إغلاق كل هذه الوسائل الإلكترونية، لأنهم يعرفون حقيقة وضع خامنئي الصحي، مما يعني أنه في وقت قد يكون قريباً سينتخب آخر محله.
كان المتشددون قلقين من أن فترة ثانية لروحاني ستحطم كل أحلامهم؛ وفي مايو (أيار) الماضي وجدوا أن أفضل مرشح لإلحاق الهزيمة بروحاني هو إبراهيم رئيسي؛ رجل دين شاب؛ ضعيف الشخصية عينه خامنئي لإدارة ضريح الإمام الرضا المرتبط بعائدات سنوية تقدر بنحو 120 مليار دولار.
فاز روحاني ثم تبعه انتصار الرئيس الأميركي دونالد ترمب الذي رحب المتشددون به لمعرفتهم كراهيته الصفقة النووية، وتأملوا ضمنياً أن «يقتلها». لكن بهذا أحرجوا أيضاً المرشد الذي كان أعطى الضوء الأخضر لروحاني ولوزير الخارجية محمد جواد ظريف لإتمام الصفقة، واليوم الخميس يكون ظريف في لقاء مع المسؤولين الأوروبيين للتأثير على ترمب بألا يلغي الاتفاق النووي، ويوم غد أيضاً هو موعد قرار ترمب.
بسبب طلب روحاني من الرأي العام مناقشة الميزانية على أمل أن الضغط الشعبي سيجبر البرلمان على خفض التمويل العام لعشرات المؤسسات التي أنشأها محمود أحمدي نجاد، قام المتشددون الذين هم في الغالب من أتباع آية الله مصباح يزدي بتنشيط خطتهم؛ فإما إجبار روحاني على الاستقالة الآن، أو استغلال خيبة أمل الناخبين لهزيمة المعتدلين عام 2021. روحاني يواجه اليوم وضعاً صعباً جداً سيقرر مستقبله؛ خليفةً محتملاً لخامنئي، وأيضاً مستقبل إيران.
ما لم يحققه المتظاهرون الآن: تغيير استراتيجي كبير في السياسة الإيرانية. يوم الأحد الماضي قال حسين عبد اللهيان: «سنبقى في سوريا ما دامت الحكومة هناك في حاجة لمستشارينا ولمساعدتنا العسكرية».
المهم ما التنازلات التي ستقدمها الحكومة للناس، وما إذا كان الناس سيشعرون بأن هذا كافٍ. مشكلة روحاني أنه لن يجرؤ على ربط المظاهرات بسياسة إيران الإقليمية، فهي ترى في تدخلاتها حماية لأمنها الداخلي.
لكن أليست المظاهرات جزءاً أساسياً من عدم استقرار النظام؟ ثم إنها مستمرة.