هناك تحول سياسي جدي سيأخذ طريقه مقابل انحسار لمكانة الزعامات الشيعية المنغلقة، والتي لا ترى في الأفق سوى الانحياز لإيران. لكن هذا التحول بحاجة إلى دعم محلي سياسي وإعلامي من النخب الثقافية والإعلامية العراقية الوطنية
 

يتساءل البعض عن اندفاع بعض شيعة العراق العرب (سياسيين ومواطنين) نحو إيران، هل لأنها مرجعيتهم المذهبية وانتماؤهم الإثني عشري أم لأنها من حررهم من نظام صدام؟ في وقت تشير جميع الوقائع التاريخية الإسلامية والمذهبية إلى أن شيعة العراق هم مصدر المذهب الإثني عشري ولهم شرف ريادته وليست إيران، وبأنهم متجانسون قبليا، وأكبر القبائل العربية في العراق يتقاسمها الشيعة والسنة، وإن إيران تبغض عرب العراق الشيعة مثل بغضها لسنة إيران. لكن بعض وسائل الإعلام الإيرانية الناطقة بالعربية ومثلها العراقية الطائفية تحاول طمس هذه الحقائق عن طريق إشغال المواطنين ببعض المظاهر الغريبة عن المبادئ الأصيلة للتشيع العربي، وبعضها يسعى إلى تعظيم “قدسية” ولي الفقيه في طهران رغم أنه زعيم ومرجع سياسي قبل كل شيء.

هناك قائمة طويلة من المراجع الشيعية عارضت ولاية الفقيه ونظريتها حسب المصادر الشيعية ومن أبرزهم فقهاء النجف؛ السيد محسن الحكيم ونجله السيد محمد باقر الحكيم، والسيد أبوالقاسم الخوئي والشيرازي. والأحياء منهم مثل السيد علي السيستاني ومحمد سعيد الحكيم وإسحاق فياض وبشير النجفي. إضافة إلى فقهاء لبنان من الأموات والأحياء منهم السيد محسن الأمين، وعبدالحسين شرف الدين، والسيد موسى الصدر والشيخ محمد مهدي شمس الدين والشيخ محمد حسين فضل الله. وهناك الكثيرون من الفقهاء في إيران ممن يعارضون نظرية ولي الفقيه ويعتقدون أنها نظرية سياسية لا علاقة لها بالدين الإسلامي ومذاهبه، غرضها تكريس الحكم المطلق قي يد رجل واحد وطاعته واجبة إلى حين عودة الإمام المهدي.

إذن بدعة ولاء شيعة العراق للنظام الإيراني لا تستند إلى حقيقة تاريخية أو مذهبية، وإنما هي موجة سياسية عابرة تخدم أهداف بعض الأحزاب والكتل السياسية الشيعية في العراق. الحقائق التاريخية تتحدث عن كره مؤسسة الدولة الفارسية، قبل الخميني وبعده، لعرب العراق، وهي وقائع تصاعدت خلال فترة الحرب العراقية الإيرانية (1980 – 1988) حيث هاجر الآلاف من العراقيين واستوطنوا إيران بسبب قرارات ترحيلهم من قبل النظام السابق قبيل الحرب بسبب “تبعيتهم لإيران” أو لأسباب “أمنية” حسب تبريرات النظام. كما وقع الآلاف من الأسرى العراقيين خلال تلك الحرب تحت قبضة أجهزة الاستخبارات الإيرانية التي عاملتهم باحتقار وحقد، فمنعت عنهم حقوقهم وفق القانون الدولي كلاجئين.

حين احتل تنظيم داعش أرض العراق وتوطن في المحافظات السنية سوقت المقولة الجائرة بأن أبناء تلك المحافظات هم حاضنة الإرهاب
ونشرت مجلة الوسط اللبنانية بتاريخ 25 أكتوبر 1991 تقريرا موّسعا قالت فيه “إن العراقيين المهاجرين إلى الجمهورية الإسلامية نحو نصف مليون نسمة ليس لهم حديث سوى المضايقات التي تطالهم باعتبارهم غرباء وأجانب وطفيليين، لحملهم على المغادرة قبل الشروع بمخططات نقلهم إلى معسكرات ومخيمات، وهناك دلائل كثيرة تتحدث عن إيران القومية التي استفادت من الغطاء الديني المذهبي لبسط نفوذها في العراق، ألم تقف إيران مع أرمينيا المسيحية ضد أذربيجان المسلمة الشيعية”.

لقد سبق أن حرم شيعة العراق أو قيدوا في استخدام شعاراتهم ومُنع تسييسها قبل عام 2003 مما اضطر دستور صفقة الشراكة الكردية الشيعية عام 2006 إلى تثبيت مشروعية هذه الحالة الشعبية دستوريا، لكن ذلك لم يعن إطلاقا تسليم شيعة العراق مقدراتهم العقائدية والروحية لإيران إلا عندما بدأ نشاط السياسيين الحزبيين الذين عادوا إلى العراق من إيران وسوريا والبلدان الأخرى بعد سقوط النظام السابق مباشرة، فوظفوا هذه الحالة الإنسانية المشروعة وطقوسها للأغراض السياسية، وانفتحت الأبواب أمام إيران لتنفيذ مشروعها للنفوذ داخل هذا البلد عبر وسائل دعوية وإعلامية كثيرة استهدفت وحدة الشيعة والسنة عبر إشاعة عناصر الكراهية والثأر بين الطائفتين المتآخيتين، وفتح معارك سياسية وأمنية متواصلة لإرهاب العرب السنة وتصويرهم زورا بأنهم أعداء للطائفة المقابلة وبأنهم “أبناء يزيد وأبي بكر وعمر وصدام وداعش” إلى درجة وضع الكثير منهم تحت طائلة المادة “4 إرهاب” وشيدت جدران العزل الطائفي في بغداد إلى درجة أرعبت الناس، ولجأ بعض ممن أسماؤهم تبدأ بعمر أو بكر إلى تغيير بطاقتهم ومنبت ولادتهم خوفا من المجهول، ولكي يتمكنوا من تسيير معاملاتهم الروتينية في الدوائر الرسمية ببغداد خاصة، وسوقت مقولة إن “إيران حامية الشيعة ومن لا يواليها ويوالي نظام ولاية الفقيه فهو خارج عن تشيّعه”.

ومع ذلك فقد خمد البركان الطائفي وتراجع رغم ما خلفه من معاناة اجتماعية وسياسية وانكشفت الغايات والأهداف المصلحية والحزبية على حساب مصالح الناس والشيعة بشكل خاص، وإن آثار ذلك المد الخارجي الغريب على العراقيين قد استهدفت شيعة العراق قبل سنته، ولتنفيذ رغبات ومطامع إيران السياسية قبل غيرها.

وحين احتل تنظيم داعش أرض العراق وتوطن في المحافظات السنية سوقت المقولة الجائرة بأن أبناء تلك المحافظات هم حاضنة الإرهاب، رغم الحقائق التي أكدت ذبح الداعشيين وتشريدهم لأبنائها، وحين انطلق نداء فتوى الجهـاد الكفـائي للسيد السيستاني التي أرادها هبّة وطنية لحمل السلاح ضد عدو العراقيين خرج أبنـاء المحافظات الوسطى والجنوبية في ملحمة الدفاع عن العراق وقدموا دماءهم الزكية من أجل تراب العراق إلى جانب إخوتهم في تلك المحافظات، لكن تم تجيير هذه المعركة الوطنية سياسيا وطائفيا وكأنها معركة أبناء الشيعة لوحدهم، واستثمرت بعض الجماعات الشيعية المسلحة هذا المناخ التعبوي لتنفيذ أجندات خاصة.

لقد فشلت الأحزاب الشيعية في تقديم الإنجاز للمواطن العراقي، وتحملت الطائفة الشيعية العراقية وزر ذلك الفشل وساد شعور سياسي عام بأن الشيعة قد نجحوا في حكم العراق بسبب معاونة أميركا وإيران لكنهم فشلوا في إدارة هذا الحكم خلال الأربع عشرة سنة الماضية حيث أصبح العراق مفككا طائفيا وعرقيا إلى درجة تجرؤ حاكم كردستان مسعود البارزاني على إعلان استقلاله عن العراق.

الأحزاب الشيعية فشلت في تقديم الإنجاز للمواطن العراقي، وتحملت الطائفة الشيعية العراقية وزر ذلك الفشل وساد شعور سياسي عام بأن الشيعة قد نجحوا في حكم العراق بسبب معاونة أميركا وإيران
ورغم قوة البرنامج الإيراني في انتزاع عروبة العراق من قلوب أبناء الشيعة لكن هناك أمثلة يومية كثيرة على المستويين الشعبي والسياسي تؤكد ولاءهم لوطنهم العراق ورفضهم الانقياد لسياسات نظام ولي الفقيه في طهران، وهناك أمثلة كثيرة كالاحتجاجات الشعبية بين عامي 2012 و2016 والتي تم إخمادها وتخوين القائمين بها وهم من الشيعة، وسبق أن عبرت مرجعية النجف عن عدم ترحيبها بزيارة رئيس مجمع تشخيص النظام الإيراني للعراق محمود هاشمي الشاهرودي أواخر العام الماضي قيل إنها كانت بهدف توحيد الأحزاب الشيعية وعدم انفراط عقدها استعدادا لانتخابات عام 2018 ولم يقابله جميع أقطاب المراجع وفي مقدمتهم علي السيستاني كما لم يقابله الزعيم الشيعي مقتدى الصدر، إضافة إلى الحراك الجديد داخل الأوساط السياسية الشيعية بقيام تكتلات وأحزاب صغيرة ذات أهداف وطنية لا دينية ولا مذهبية وتضم شخصيات سنية.

حصل أخيرا الفرز الواضح داخل الوسط السياسي الشيعي العراقي بين المتمسكين بعروبة العراق والرافضين للهيمنة الإيرانية، وبين الموالين لطهران وهم قلة من السياسيين المعزولين الذين وجدوا أنفسهم في حرج سياسي أمام جمهور العراقيين، فلجأوا أخيرا إلى استبدال عناوينهم السياسية بشعارات أخرى تبعد الشبهات الطائفية أو الولاء لإيران، رغم عدم قدرتهم على الانفكاك عن تلك العلاقة الأيديولوجية، بل إن الزعامات الشيعية الملبية للروح العراقية الصحيحة غير الموالية لطهران أصبحت أكثر قدرة على ملء مواقعها في ضمير الناس.

هناك تحول سياسي جدي سيأخذ طريقه مقابل انحسار لمكانة الزعامات الشيعية المنغلقة، والتي لا ترى في الأفق سوى الانحياز لإيران. لكن هذا التحول بحاجة إلى دعم محلي سياسي وإعلامي من النخب الثقافية والإعلامية العراقية الوطنية ودعم عربي حقيقي نزيه فيه حرص على مكانة العراق يزيل من العقول السياسية ومن التداول الإعلامي مقولة إن شيعة العراق هم موالون لإيران، لأنها تخدم الأجندة السياسية الإيرانية. ولا بد أن تحل محلها حقيقة أن شيعة العراق هم عرب في انتمائهم وولائهم وستثبت الأيام هذه الحقيقة.

 

د. ماجد السامرائي