لم يتوقع سوى القليل من المحللين والكتاب أن تؤدي المظاهرات الأخيرة، رغم جديتها واستمرارها وسعة انتشارها، إلى إسقاط النظام. ولكنّ كثيرين منهم كانوا متيقنين بأنها ستكون نقطة فاصلة بين إيران ما قبلها، وبين إيران ما بعدها. بالإضافة إلى أن صعوبة الظروف المعيشية والسياسية والاجتماعية هي التي أخرجت الجماهير عن صبرها، ودفعت بها إلى الاشتباك مع مجاميع الحرس الثوري القمعية، فإن النظام، بغبائه وغروره، أضاف أسبابا أخرى أكثر خطورة، ويصعب التكهن بقدرة الإيرانيين على نسيانها، ومسامحة النظام عليها.

استخدام الرصاص الحيّ لردع المتظاهرين وقتلُ بعضهم والتهديد بإنزال الجيش والمواجهات والمعارك التي حصلت بين الجماهير والحرس الثوري والاعتقالات الواسعة، خصوصا بين صفوف النساء المتظاهرات وطلاب الجامعات، لا بد أن تشعل المزيد من نيران الغضب الشعبي ومن إصرار الجماهير على المواجهة، ولا بد أن تدفع نظام خامنئي إلى انتهاج أحد سلوكين: فإما أن يزداد عنادا ويضاعف عنفه في الداخل وفي الخارج معا، لتأكيد قوته ومنَعته وصعوبة إسقاطه، وإما أن يُضطر إلى التخفيف، ولو جزئيا، من دعمه للميليشيات والأحزاب الخارجية، ثم يجبره ذلك على أن يُرخي قبضته، قدر المستطاع، على الحكومات التي تخضع لوصايته، لامتصاص النقمة ولتحقيق بعض التصالح مع الجماهير. ولكل حالة من الحالتين تداعياتها اللاحقة وإفرازاتها التي تحدد عمر النظام وطبيعة المعارك المقبلة التي ينبغي له، مرغما لا راغبا، أن يخوضها.

من الأدلة القوية على نجاح المتظاهرين في إصابة النظام بالذهول وبالخوف من أن تتحول الاحتجاجات إلى طوفان سياسي يُسقطه مثلما أسقط غيره في المنطقة:

*حالة الاستنفار القصوى والانفعال والتوتر والاضطراب التي جعلت جميع أجهزة النظام تسارع إلى عقد الاجتماعات والمشاورات لاتخاذ القرارات وإعداد الخطط التي يمكن أن توقف المد الجماهيري الذي اقتحم، لأول مرة، مدنا كانت عصية مثل قم وكرمنشاه، إضافة إلى العاصمة طهران. والأكثر تعبيرا عن الجدية التي عامل بها تلك الاحتجاجات هو إيعازه بإخراج عدد من المسيرات المؤيدة في عموم البلاد أغلبُ المشاركين فيها من طلبة الحوزات ومنتسبي الباسيج والحرس الثوري والموظفين وطلبة المدارس الذين تم نقلهم بحافلات حكومية، دعما للولي الفقيه، ورفضا لـ”مثيري الفتنة المخربين”.

*توافق جميع قادة النظام في الداخل ورؤساء الأحزاب والميليشيات المملوكة من قبله في الخارج على أن أصل الحراك تدخل أجنبي وعلى أن المتظاهرين عملاء. ولأول مرة يهرع النظام الذي عوّد العالم على التصرف بعنجهية وكبرياء واستكبار إلى مجلس الأمن الدولي طالبا منع أميركا والغرب من التدخل في الشؤون الداخلية لدولة ذات سيادة، الأمر الذي ذكَّر الإيرانيين والعرب والعالم بتدخلاته الدموية الإرهابية في دول كانت آمنة قبل وجوده.

*التصريحات النارية المتلاحقة التي أطلقها كبار وكلاء النظام الإيراني وحلفائه العراقيين والعرب المعتمِدين في بقائهم وإثرائهم على رعايته. فقد أعلن أحد المعممين العراقيين أن الحراك (العميل) في إيران محاولة لإسقاط النظام الديمقراطي في العراق. وأعرب نوري المالكي عن “شجبه واستنكاره لأي تدخل خارجي في الشأن الداخلي لإيران، وأي دولة أخرى”. وطمأن حسن نصرالله، جماهير المتظاهرين الغاضبين في إيران بأنه يتقاضى راتبا قدره فقط 1300 دولار أميركي. إلا أنه لم يفصح عن المبلغ الذي تتقاضاه ميليشياته من طهران.

ومن الشواهد على جدية الخطر الذي يتهدد النظام الإيراني تحذير سيرجي ريابكوف، نائب وزير الخارجية الروسي لواشنطن، من محاولات التدخل في الشأن الداخلي الإيراني. كما ضم سلطان أنقرة، هو الآخر، صوته إلى صوت حلفائه الروس وأبدى استعداده لحماية النظام من السقوط.

والآن، وقد تبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود، واتضحت معالم المعارك المقبلة بين معسكر خامنئي وبوتين وأردوغان و(المجاهدين) العراقيين واللبنانيين والسوريين واليمنيين والأفغان، وبين شعوب إيران والعراق ولبنان وسوريا واليمن والبحرين ومصر وتركيا، فمن الغباء والجهل أن يظن أحد، مهما كانت قسوته وظلمه وجبروته، بقدرته على قهر كل هذه الشعوب.