طغت أخبار الاحتجاجات الشعبية في إيران على نهاية العام. غيّرت البوصلة، أو بتعبير أدقّ، جمّدتها في اللامكان اقليمياً. فالمحور الذي يقوده نظام الملالي هو الأثقل وزناً ومفعولاً في محيطنا حتى إشعار آخر. أيّ خطب يصيبه تمتد تداعياته وسع الإقليم وتصل الى عواصم القرار التي تفصّل على قياسها كوارث المنطقة لتحصل منها على ما تسعى اليه من مصالح ونفوذ. 

الحال الفراغية التي يمكن ان يؤدي اليها أي اضطراب في هذا الدور، من شأنه ان يكشف ويعرّي ويبدّل الكثير من المعطيات، وتحديداً لأن التجارب لا تبشر بوجود خطط طويلة او قصيرة الأمد لمواجهة أيّ تحديات او تغييرات طارئة. بالعربي الفصيح، لا خطة "ب" لما يمكن توقعه من الاحداث لدى أيّ طرف من الأطراف الذين يرفضون الدور الإيراني في المنطقة.

هنا بيت القصيد ومركز نقاط الضعف التي سمحت لإيران في الأصل بالتوسع واستنبات الاذرع بحجة او بأخرى واستخدام هذه الاذرع حيث يجب ومتى يجب لتحقيق مشروعها الإقليمي وفرض نفسها قوةً تتحدى الدول العربية الغارقة في وهنها وعيائها عندما يتطلب المشروع ذلك.

وفي حين لا يزال مبكراً الدخول في التكهنات والتحليلات لما ستؤول اليه هذه الاحتجاجات، يمكن القول ان فرصة لبنان دون غيره قد تكون واعدة بمرحلة مقبولة لجهة توازن القوى، اذا ما تطورت الاحداث الإيرانية وصولاً الى الفوضى التي تربك تمدد نظام ولاية الفقيه خارج حدوده الجغرافية.

لذا، لا بد من الإشادة بعطلة الأعياد التي ساهمت بتطبيق مبدأ النأي بالنفس حيال الاحداث الإيرانية، فلا تعليقات سياسية ولا استفزازات ولا تشفٍّ من أطراف سياسيين معروفة مواقفهم، ولا احتفالات بانتصار محاور.

من جهة ثانية، وبعيداً من العناوين والشعارات الرنانة، وبعيداً من الانفعالات الغرائزية المتسرعة، لا بد من عقل بارد لقراءة تطور صراعات المنطقة والمحاولات المستمرة لجني ثمار التسويات الإقليمية عبر استخدام لبنان خاصرةً رخوة.

فالمهم ان لا نسكر بإدعاء القوة والمبالغة في التغني بالسيادة، في حين ان لبنان مفتوح والى أجل غير مسمّى على احتمالات سهلة ممتنعة، ربما هي حال هذا البلد منذ تكوين صيغته المعاصرة بين تناقضات المنطقة. فهو لا يغادر منطقة الخطر ولا ينفجر لتتشظى هذه الصيغة التي تجمع انعكاس التناقضات في وعاء واحد لا تخبو ناره، وإن تغيرت درجة حرارتها مع تغير رياح الازمات واولويات اللاعبين على ساحتنا المستباحة.

تبرز هنا بوابة فاطمة. حتى الامس القريب، منها ارسلت البرقيات للضغط على من يهمهم الامر في سبيل الحصص المأمولة من التسويات الموعودة في الملفات الإقليمية.

فما شهدته البوابة يتجاوز بكثير كونه انتهاكاً لسيادة لبنان بوقاحة مألوفة لمن يصادر قرار البلد.

وليس صحيحاً ان الوجود الميليشيوي للأذرع الايرانية كان يهدف الى تهديد إسرائيل بأنها لن تستطيع بعد اليوم الاستفراد بـ"حزب الله" في أي حرب مقبلة، وانما عليها ان تواجه كل هذا الاذرع التي تتغندر بالبزات العسكرية على عين تجّار الحروب والتسويات.

فرباطة الجأش كانت المواجهة الوحيدة الفعلية للاستفزازات الإسرائيلية، لأن القضاء على هذا الكيان المغتصب ليس الهدف، فالاهم هو وصول الـCorridor من طهران الى البحر المتوسط. من هنا كانت الانعطافة الى البوابة التي تؤمّن استعراضاتها التلويح بالمقاومة من دون استخدامها ما دامت الطريق سالكة وآمنة.

اليوم، يبدو مشروع الـ Corridor مهدداً بالنسف، لأن أي اضطراب في الدور الإيراني سينهي وجود غالبية هذه الاذرع وينهي دورها، سواء في سوريا او العراق او اليمن او فلسطين، وصولاً الى لبنان.

من هنا، تبدو مفيدة بعض البرقيات الداخلية من دون مبالغة او إسفاف بضروة التموضع الميكيافللي لحفظ الرأس اللبناني حتى تمر التسويات من دون ان تصيب من البلاد مقتلاً.

أيضاً، لا بأس بتجنب الجنوح في الدعوة الى قلب الطاولة عبر أساليب قائمة على مبدأ "اذا ما كبرت ما بتصغر" حتى لو تطلب الامر الانتحار والشهادة لتسجيل المواقف. تفضيل الميكيافيلية أجدى، بغية إراحة الناس في هذه المرحلة ومنحهم فسحة لإلتقاط الانفاس ليعملوا ويعيشوا ويتعايشوا مع الازمات الاجتماعية والاقتصادية، وإن في استقرار مهزوز، ما دام اخماد النار تحت طبق التناقضات مستحيلاً.

فليبدأ العمل من خلال هذه الفسحة بين الاستقرار والترقب، للحؤول دون منح هذه الطبقة السياسية فرصة تحصيل أكبر عدد من المقاعد النيابية في الانتخابات المرتقبة على طبق من ذهب.

هذا اذا حصلت الانتخابات في ظل ما تشهده إيران وما يمكن ان تصل اليه التداعيات اذا أفلتت أمور القبضة الحديد من زمامها وصرنا في مواجهة معادلات جديدة قد تكون الفوضى غير البناءة حصيلتها الأولى. وقد تذهب الانتخابات النيابية ضحيتها.

لذا المطلوب بعض الدعائم للخاصرة الرخوة، ليصبح ممكناً تبادل الامنيات بالعام الجديد.