ليس غريباً أن أستحضر في ذاكرتي المتواضعة، بضعة أحاديث كنتُ قد تناولتُ أطرافها مع صديقٍ مقرّب أعرف أنه يفوقني ثقافةً وإرادة، في ظلِّ ما تواجهه قدسنا الحبيبة من مشقات ومظالم، وخصوصاً في الآونة الأخيرة.  

منذ أكثر من سنة، استوقفتني مقولةً لافتة كنتُ لا اقرأ سواها على منصات التواصل الاجتماعي.

ثم قرأتُ خبراً عابراً عن مواعيد عرض برنامجٍ وثائقي لمجموعة شبّان فلسطينيين.

بالمصادفة البحتة شاهدتُ في اليوم التالي هذا الوثائقي، "باص رقم ٤٧"، من دون أن أكون ملمّةً فعلاً بتفاصيل إعداده.


إلى أن أدركتُ في ما بعد أن صاحب مقولة "عش نيصاً وقاتل كالبرغوث"، هو أحد أهمّ الباحثين السياسيّين، ومعدّ البرنامج الوثائقي، وهو نفسه محور حديث صديقي، الشهيد باسل الأعرج.

أحزن كثيراً لأن معرفتي بوجودِ مناضلٍ من طينة باسل الأعرج باتت أعمق لديّ بعد استشهاده.

لكن رسالة كل شهيد هي هذه، أن يبقى أثره والطريق الذي سلكه- ويأمل أن نسلكه- لامعاً كالسيف في دواخلنا إلى ما بعد ارتقائه.

وكان لكَ ما أردتَ يا باسل.

أستطيع بسهولة أن أتخيّلكَ مبتسماً الآن وأنت تلفُّ عنقكَ بالكوفية الزاهية المضرّجة بدمائك وتشاهد من الأعلى مَن أمَّنتهم على القدس وفلسطين، شركاءك في القضية الذين اتخذوا من الكفاح درباً لن يجرؤ أحد على إبعادهم عنه.

لكَ ما أردتَ أيها المشتبك، يا بذرةً طيّبة قدّر لها الله أن تنمو في باطن الأرض بعد أن أزهرت عزماً وثورةً.

أنتَ الاسم الذي بات يصدح في أُذن من لا يسمع قبل الذي يسمع، وأيقونة مبجّلة من المحال أن يغيب أثرها عن أذهان الشعب الفلسطيني المكلوم الذي حمل عبء وجعه ونكبته طوال سبعين عاماً.

أعلم أنكَ لن تكون الأخير، لأن الأرض التي أنجَبتكَ كريمة حدّ الترف، وأعلم أن الشراسة التي حلمتَ بها في بناتنا قد ظهرَت في "عهدنا" (عهد التميمي) الذهبية وعلى اليدين الصغيرتين حجماً، الكبيرتين فعلاً وصفعاً.

عهد التميمي التي فعلتْ ما لم يسبقها إليه أحد، ولقّنتنا جميعاً درساً مفاده أنّها طفلة بحجم وطن، وكي يعودَ الوطن، علينا أن نبقى على العهد.

حتماً كنتَ لتقفَ، يا باسل، مندهشاً وفخوراً بعظمتها في الوقت الذي تطلبُ فيه البلاد أهلها، فلا يلبّيها إلّا أهلها.

من مثل عهد التميمي.

ومن مثل ابرهيم ابو ثريا الذي أكّد بعجلات كرسيه أننا شعبٌ نُعجِز ولا نَعجز.

ومن مثل فوزي الجنيدي، فتى الـ ٢٣ جندياً.

ومن مثل مَن لم يُذكَر اسمه للملأ، لأن من يستشهد لأجلِ القدس لا يفعل ذلك كي أكتب عنه الآن.

ومن مثل مَن لم يغادر ساحات الاشتباك المباشر ومَن تمَّ أسره أمام عدسات المصورين.

ومَن أجبره قَدَره على أن يكون لاجئاً مشتتاً، لكنّها حنجرته التي لم تسكت عن الهتاف من أجل القدس، ومَن لم يتوقف حسّه الوطني عن الشعور بالتقصير، وليس باليد حيلة أكبر!

لعلّك تطمئنّ الآن يا باسل، وكلّ مَن سبقك أو ارتقى بعدك.

سوف لن نقبل بالذلِّ، كما اعتدتُم أن لا تقبلوا.

وسوف لن نخضع لأي قوّة، كما علّمتمونا أن لا نفعل.

فإمّا المقاومة إلى أن نعود، وإمّا المقاومة إلى أن نعود .

(حنين باسل)