هناك شيء «سوفياتي» عميق الجذور في سياسات روسيا الحديثة: الأرقام قرار حزبي وليست علماً صارماً وحقائق مجرّدة. والنفوذ الخارجي أَوْلَى من حاجات الداخل. و«العلاقات» الدولية تُبنى على مفهوم القوّة وتكتفي به... و«الانتصار» في معارك عسكرية لا يعني انتصاراً «وطنياً» شاملاً بل شأن خاص بالتركيبة القيادية القائمة وشخصها الأول.. ثم قبل ذلك وفوقه احتكار السلطة في أيدي أصحابها (أو صاحبها الوحيد!) ونفي أي احتمال لأيّ معارضة أو مُساءلة!

المثال السوري فضّاح بقدر ما فيه مفارقة غريبة: أبرز مسارح نجاح القيادة الروسية، وفي الوقت ذاته أبرز أسباب فشلها! فيه لعبت موسكو الدور الأقوى وعبّأت الفراغ نيابة عن أوروبا عاجزة وواشنطن منكفئة. وفيه شنّ فلاديمير بوتين خطوات كبيرة على طريق مشروعه الإحيائي. وتمكّن من تحويل موقعه كمنبوذ مُعاقب نتيجة ما اقترفه في جورجيا وأوكرانيا والقرم وملاحقة المعارضين في الداخل والخارج، إلى «حاجة لا بد منها» لنابذيه ومعاقبيه! لكنّه في المحصلة الراهنة، يبدو مهزوماً أكثر من كونه منتصراً! ولا يعرف كيف «يقرّش» إنجازه الميداني ويترجمه في السياسة! بل يتصرف وكأنّه ضعيف يحتاج إلى تزوير الأرقام وتشويه الحقائق، كي يبدو قوياً!

رئاسة أركانه في موسكو تتحدث عن «قتل» ستّين ألف «داعشي» من أصل سبعين ألفاً!! مع إن كلّ العالم يعرف أنّ هذا الرقم فضفاض وغير علمي وغير موثّق! وإن شرق حلب مثلاً لم يكن فيه «داعشي» واحد! وإن أكثر من تسعين في المئة من أهداف الطائرات الحربية والصواريخ الباليستية الروسية كانت مواقع للمعارضة وتجمعات سكنية مدنية لا وجود لـِ «داعش» فيها!

ثم يُصار إلى اتّهام واشنطن بتدريب إرهابيّين في قاعدة «التنف» العسكرية الأميركية الرابضة قرب الحدود العراقية وعلى الطريق الرابط بين طهران وشاطئ المتوسط... في حين لم تمضِ أيام معدودة على توثيق واقعة مرور عناصر «داعش» عبر مواقع بقايا السلطة الأسدية وحلفائها، المحمية جواً بالطائرات الروسية، إلى مناطق خاضعة للمعارضة في الشمال والجنوب وقرب دمشق نفسها!

.. ثم فوق ذلك يعود وزير الخارجية سيرغي لافروف لاستخدام شمّاعة الإرهاب لتغطية مآرب بعيدة عن مفهوم التسوية المدّعاة.. كأن يكتشف (مجدّداً) أنّ «النصرة» إرهابية ولا بدّ من القضاء عليها! وأن يكون اكتشافه هذا مترافقاً ومتزامناً (بالصدفة!) مع رفض أربعين فصيلاً معارضاً المشاركة في مسرحية سوتشي! أو الإذعان لطلب التخلّي عن الشروط البديهية لإنضاج أي «تسوية» فعلية للنكبة، وفي صدرها ومقدّمها وأوّلها وأساسها تنحّي بشار الأسد وتأكيد صيرورته جثّة سياسية تامّة!

أي كأنّ الروسي يعود مواربةً إلى لغته الأولى التي كانت تصف كل معارض بأنّه «إرهابي»! وإلى محاولة تتويج الانتصار على «داعش» بفرض الاستسلام على عموم السوريين الذين دفعوا الأثمان المريرة ثلاث مرّات: مرّة على أيدي النظام وأجهزته و«جيشه» وحلفائه الإيرانيين وميليشياتهم المذهبية! ومرّة ثانية على أيدي الروس أنفسهم! ومرّة ثالثة على أيدي «داعش» ما غيره!

وذلك يحيل الاستراتيجية الروسية المتّبعة إلى لعب هواة: بدلاً من أن تلتقط موسكو اللحظة الراهنة وتعيد ترميم الجسور مع أكثرية السوريين، تذهب إلى مراوغة مستحيلة أساسها الإمعان في محاولة كسر تلك الأكثرية وتغييب حقوقها بما يؤكد عبث سوتشي وآستانة وجنيف، وانعدام أي احتمال لتسوية قريبة وفعلية! وبما يعني في المحصّلة «استمرار النزاع» والاستنزاف، وخسارة موسكو في السياسة ما حقّقته على الأرض!

.. هذه سوسة «سوفياتية» متأصّلة في الجسم السياسي المركزي في موسكو: رفع العلم الأحمر فوق مبنى المستشارية في برلين والانتصار على النازيين في منتصف الأربعينات من القرن الماضي، لم يمنع أهلها من «امبراطورية العمال والفلاحين»، من الانهيار الكاسح في مطالع تسعينات ذلك القرن! واكتساح أفغانستان أيام بابراك كارمال لم يمنع الهزيمة المدوّية للجيش الأحمر بعد عقد من الزمان! وإحكام الستار الحديدي على أوروبا الشرقية لم يمنع أهلها من تحطيمه وكأنّه لوح زجاج لا أكثر!

ويخطئ فلاديمير بوتين المنتشي بصورته «البطولية»، إذا افترض أنّ السوريين أضعف من الأفغان! أو إذا تجاهل الحقيقة القائلة بأنّ آخر ضحايا القوّة العارية والغاشمة هم أصحابها أنفسهم!