يتمنّى اللبنانيون على تنوّع “شعوبهم” وتناقضها نجاح فرنسا ماكرون وسعودية محمد بن سلمان في إقناع قادتهم الكبار باعتماد سياسة تبقي استقرارهم الحالي بعد تخفيف هشاشته. ويتمنون أن تعطي إيران الفاعلة في البلاد النجاح المُشار إليه فرصة إذ لا تقدّم من دونها. لكن التمنّي شيء والواقع شيء آخر. الواقع يشير الى أن الخوف متبادل بين “الشعوب” وداخل كل منها وحتى بين الحلفاء، والى أن التيقّظ والحيطة يحكمان تصرفات قادتها خشية مفاجآت داخلية وخارجية كما خشية “طعنات في الظهر” وتقلبات في المواقف. ومن الأدلة الحديثة على ذلك إقدام رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس الحكومة سعد الحريري على توقيع مرسوم سنة أقدمية لضباط مسيحيين أدخلهم الأول “الكلية الحربية”، يوم كان لبنان في حرب، ويوم كان هو مستولٍ على السلطة وفريقاً في الحرب الأهلية الدائرة. هذا المرسوم رفضه علانية الرئيس نبيه بري الشيعي وأيّد موقفه ولكن بصمت شريكه “حزب الله”. وجرى حديث شيعي عن صفقة سنية – مارونية أوحى بوجود خوف من صفقة كهذه. واذا كان ذلك صحيحاً فإنه يثير شكوكاً كثيرة في متانة الحلف بين “الحزب” و”التيار الوطني الحر”، ويؤكد وجود خشية من انقلاب التحالفات ولا سيما بعدما لعب الحريري السنّي الدور الأبرز ظاهراً في إيصال العماد عون الى رئاسة الجمهورية. كما يثير شكوكاً في وجود نيات لفرض عودة صلاحيات أساسية الى رئيس الدولة، وعلى حساب صلاحيات المسلمين ومنهم الشيعة الذين اعتبروا أن إمساكهم بوزارة المالية والتوقيع المالي نهائي، وأن ذلك يثبّت مشاركتهم المساوية لمشاركة المسيحيين والسنّة، ويؤكد قدرتهم التعطيلية في حال الخلاف. ولعل في المواقف المسيحية العنصرية التي اتخذها “ولي عهد” الرئيس عون الوزير جبران باسيل في أثناء البحث في قانون الانتخاب، والتي راوحت بين فيديرالية انتخابية، إذا جاز التعبير، ورفض للنسبية، ما يدفع الى الخشية والشك الشيعيين. ولعل أيضاً في تقلّب المواقف العونية منذ دخول صاحبها دائرة متعاطي الشأن العام من أجل تحقيق حلمه الرئاسي ما يثير الخشية عند كثيرين في مقدمهم الشيعة وغيرهم.

الى ذلك كله يشير الواقع الذي هو غير التمنّي الى أن أي حل للقضايا الخلافية “المربوط النزاع” حولها بين طوائف لبنان ومذاهبه مستبعد قبل إنهاء حرب سوريا واليمن والعراق، وقبل تسوية علاقة الرياض بطهران وعلاقة طهران بواشنطن وعلاقة واشنطن بموسكو. وذلك أمر يحدّ من قدرة الحريري على تنفيذ بيان العودة عن الاستقالة، فكيف بتنفيذ بيان “المجموعة الدولية لدعم لبنان”… ويحدّ من قدرة فرنسا على تحقيق المعجزات، ويدفع السعودية غصباً عنها الى الخيارات الصعبة في لبنان.

طبعاً لا يعني ذلك وقوع لبنان في الحرب من جديد أو زيادة هشاشة استقراريه الأمني والسياسي. لكنه يجب أن لا يدفع الى الاقتناع بأن أسرائيل، وخصوصاً بعد اعتراف رئيس أميركا ترامب بالقدس عاصمة لها، وبعد خوف الأخيرة من فشلها في منع توحيد إيران جبهتي لبنان وسوريا ضدّها رغم علاقتها الممتازة مع روسيا، لن تفتعل حرباً مع لبنان وعليه، علماً أن نسبة ذلك لا تزال منخفضة، لكن الاحتياط واجب. والرئيس الفرنسي ماكرون رفض وجاهياً طلب محمود عباس رئيس السلطة الفلسطينية، الاعتراف بدولة فلسطين واعداً إياه بأن بلاده ستفعل ذلك عندما يحين الوقت، وطلب منه إعطاء وقت لترامب كي يستكمل “تحركه السلمي” لأنه لا يستطيع استعداء مسلمي العالم كلهم ووضعهم في ظهره. وهذا كلام جميل، لكن من يضمن تحقيقه بعد عودة اليمين الاسرائيلي المتطرّف وفي اجتماعات موسّعة ومؤتمرات داخل بلاده، الى الحديث عن الأردن دولة فلسطينية، وعن “إلحاق” المقاطعات الفلسطينية غير المتصلة جغرافياً في الضفة بها.

لماذا يخيف العصر الشيعي في لبنان السنّة؟

قد يخيف السنّة لأنهم في صراع تاريخي منذ قرون كثيرة ولأن حسمه في لبنان لغير مصلحتهم قد يجعلهم مواطنين من درجة ثانية، كما حصل ويحصل في دول عربية عدّة عانت أقلياتها وأكثرياتها تبعاً للحكم في كل منها الظلم والتهميش ولا تزال. لكنه في لبنان قد يخيف المسيحيين أكثر رغم محاولة الشيعة بتحالفهم مع قسم منهم الإيحاء لهم بأنهم سيكونون موضع حماية. وذلك صحيح، لكن هل ما يطمحون إليه هو الحماية فقط أم المساواة في دولة ديموقراطية! ولكن ما الفرق في حال صار ذلك قدراً يصعب ردّه.