محورية جداً هذه المظلة الاوروبية والدولية للنأي بلبنان عن «أتاتين المنطقة» - والأتاتين جمع أتون، وهو في لغة العرب الموقد الكبير، في حين يعني أتون الحرب شدتها وضراوتها. بيان مجلس الامن بالأمس، وقبله ما صدر عن لقاء باريس لمجموعة اصدقاء لبنان، والممثلة العليا لسياسة الامن والشؤون الخارجية في الاتحاد الاوروبي الى بيروت، والمتابعة التي يحظى بها الشأن اللبناني من الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون منذ مبادرته لمعالجة الأزمة الخطيرة الاخيرة، كلها خطوات ومناخات تدرك جيداً «صعوبة» بل «مشقة النأي»، وضرورة تنمية هذه المسافة بين لبنان و«أتاتين المنطقة».

رغم كل شيء، ورغم ارتدادات تورط فريق منه بالحرب السورية، ما عمّق الازمة اللبنانية نفسها، ورغم كل ما يتصل بوضعية ارتباط هذا الفريق، «حزب الله»، بسياسات ايران في المنطقة، فقد نجح البلد، بيد خفية الى حد ما، بأن يتفادى الانفجار الدموي الكارثي للتناقضات المعتملة ضمنه، او تلك المتسعة اليه. يعود ذلك الى جملة عوامل: اصرار لبناني عميق على أن صفحة الحرب الاهلية قد طويت، وهو اصرار لا يلغيه قلقهم من السمة غير المكتملة للسلم الاهلي في البلد، وتوصيفهم اياه بالبارد او الجزئي او الهش. اختلاف اساسي بين مسار الحرب الاهلية اللبنانية (انفجار النظام عام 75 واستمرار الدولة وتاريخها الدستوري، حتى في احلك فترات الحرب) والحرب الاهلية السورية (بقاء النظام، كنظام احتضار دموي مزمن، واضمحلال الدولة). معضلة اللجوء السوري في لبنان، فهو من جهة يطرح تحديات وأعباء عديدة على الواقع اللبناني، ومن جهة ثانية له مؤثرات كابحة لجماح التناقضات ضمن الواقع اللبناني نفسه، وإن خلق هذا اختلافاً بين النظرة الرسمية اللبنانية للملف، وبين تلك الغربية، التي تعطي اولويتها لان يبقى اللجوء ضمن لبنان، ولا يفيض على اوروبا. ايضاً الاقتصاد اللبناني، مهما يقال في سمته الاوليغارشية والريعية، فهو لعب دوراً في الحيلولة دون تمدد الحريق الاقليمي الى لبنان في السنوات الماضية، رغم انخراط قسم من لبنان في الحريق الاقليمي نفسه، وارتدادات ذلك على الداخل.

لكن نجاح لبنان في تفادي «أتاتين المنطقة» في السنوات السابقة، مقروناً بعدم نجاحه في الحيلولة دون انخراط قسم من ابنائه فيها، ارتبط ايضاً بانعدام توازن داخلي متزايد، هو العمق الاساسي للمشكلات الحالية. بيد ان اي معالجة لحالة انعدام التوازن تتحول الى حالة انفعالية ما ان تكابر على اهمية الحفاظ على هذه المسافة، ولو كانت غير الثابتة، التي انوجدت بين السنوات الماضية، بين الوضع اللبناني وبين الاوضاع المشتعلة في الاقليم. فالسلام الاهلي هو الشرط الشارط والاطار المعياري الاساسي لمقاربة كل موضوعات التوازن والغلبة في الداخل اللبناني، وليس من انسجام الساعين الى الحد من الغلبة او اعادة احياء التوازنات ومأسستها وإنعاش وظائف الدولة التفريط بأهمية السلام الاهلي، وثقافته، وقيمه.

واليوم، السلام الاهلي، وتحويله من هش، في السنوات الماضية، الى صاحب قوام ونسق، ومناعة متزايدة، ما زال اشكالية تستأهل الاستنفار لها.

بل ان السلام الاهلي الدائم هو الاطار المعياري الذي على اساسه يمكن ان يتحول مفهوم النأي الى مسار تراكمي ايجابي ناجح، وليس فقط الى التزام اطراف حكومية، او تغطية اطراف دولية. كيف يمكن تحويل وقائع ومصادفات بقاء لبنان خارج الحريق الاقليمي في السنوات الماضية الى اطار لسلام اهلي مستقر للسنوات الآتية؟ وكيف يمكن في نفس الوقت تغليب معادلات التوازن في الداخل على معادلات الغلبة؟ لا احد يملك مفاتيح سحرية هنا. انما المهم، التحرك نحو الاجابة، عن السؤالين، من خلال التشديد على ان السلام الاهلي، من حيث هو عقد اجتماعي متجدد، هو المرتكز الذي على أساسه يمكن إكساب مفهوم «النأي» دلالة فعالية وحامية لاستقرار أفضل للبلد.

هل يمكن ان تتلاقى الحركة الداخلية من اجل النأي مع الحركة الدولية الساعية من اجله؟ ينبغي الانتظار والمراقبة بعض الشيء في هذا الصدد، لكن، كلما أمكن إيجاد حالة مساهمة شعبية في صناعة النأي، مبناها تجديد الشغل على السلام الاهلي والعقد الاجتماعي، وخصوصاً على فكرة رفض التغلب الفئوي، كما كل مسعى لإبدال تغلب بآخر، كلما أمكن إكساب النأي قاعدة داخلية أقوى، وكلما أمكن توقع تكامل أفضل بين «أصدقاء النأي» في الداخل والخارج.