عفرين مدينة سورية تقع في أقصى شمال غرب الخريطة السورية، وتتمتع بإدارة ذاتية أعلنها حزب الاتحاد الديموقراطي مطلع عام 2013؛ وفرت الأمن والاستقرار في المنطقة ذات الغالبية الكردية مما جعلتها محط أنظار عشرات الآلاف من الباحثين عن الأمان والهاربين من أتون الحرب المستعرة والمستمرة بين النظام ومختلف التلوينات من الفصائل الجهادية والإسلامية، ومن مختلف المناطق السورية القريبة منها والبعيدة.

المدينة التي عانت التهميش والتعريب والإهمال طوال حكم نظام البعث، تصدّرت في الشهرين الأخيرين خطابات عدد من المسؤولين الاقليمين والدوليين وبخاصة بعدما انصب اهتمام الدولة التركية بكل ثقلها ورغبتها الملحة في اجتياح هذه المنطقة الآمنة بذريعة وجود تهديد لأمنها القومي والمتمثل في وحدات حماية الشعب الكردية. وأثناء كتابة هذه السطور كرّر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تهديده لمنطقة عفرين.

تحتل عفرين حالياً سلم أولويات الدولة التركية، وتسعى بشتى السبل لإقناع اللاعبين الدوليين وخصوصاً روسيا التي تملك دائرة نفوذ ميدانية واسعة في المنطقة الواقعة بين نهر الفرات غربا والمتوسط شرقاً، وتمتلك أيضاً قاعدة عسكرية في معسكر كفرجنة شرقي عفرين.

يأتي هذا الكلام بعدما أحاطت تركيا بعفرين وحاصرتها من أغلب الجهات حيث أقامت قواعد عسكرية في إطار عملية (درع الفرات) في المناطق المحيطة بعفرين من جهة مدينة إعزاز، كما جلبت تعزيزات عسكرية كبيرة إلى الريف الشمالي لمحافظ إدلب التي تحاذي عفرين جنوباً وذلك وفق الاتفاق مع روسيا وإيران في مؤتمر أستانا6 والذي قضى بإقامة منطقة خفض التصعيد في محافظة إدلب، إلا أن تركيا استغلت الاتفاق ونشرت قواتها العسكرية بالتعاون مع جبهة النصرة وحركة نور الدين الزنكي في قلعة سعمان وجبل الشيخ بركات حيث يطل هذا الجبل على أجزاء واسعة من المنطقة.

وما يثير حفيظة تركيا أكثر إقدام الإدارة الذاتية المعلنة على إجراء انتخابات للمجالس المحلية والتي تعد اللبنات الأولى لتأسيس نظام فيدرالي في شمال سوريا، وتحت أنظار التحالف الدولي وروسيا الاتحادية والتي أرسلت مندوبين لها لزيارة مراكز الاقتراع في منطقة الجزيرة وكوباني، إضافة إلى وفد من برلمان كردستان العراق ووفد آخر كردي من كردستان تركيا، للاطلاع على سير العملية الانتخابية في رسالة سياسية واضحة حيث أشاد الجميع بالعملية الانتخابية وقيّموها إيجاباً، ولأول مرة تتسع دائرة المشاركة حيث شاركت أحزاب وفاعليات أخرى منافسة لقائمة (الأمة الديموقراطية) العائدة لحزب الاتحاد الديموقراطي وحلفائه في الإدارة الذاتية، كحزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سوريا(يكيتي) ذو القاعدة العريضة في منطقة عفرين وإقليم الفرات (كوباني)، حيث شارك بقائمة مستقلة، وفي إقليم الجزيرة ضمن قائمة حلفائه في "التحالف الوطني الكردي" مما يكسب هذه المجالس تمثيلاً أوسع وشرعية جماهيرية أكبر وإمكانية أن يتحول إقليم شمال سوريا إلى كيان واقعي في ظروف مشابهة لتلك التي أدت إلى إنشاء إقليم كردستان العراق مطلع التسعينات من القرن الماضي.

من جهتها، تعزز وحدات الحماية الشعبية التابعة في عفرين من مواقعها الدفاعية وتكثف تجنيد المزيد من الشباب وتضمهم إلى صفوفها، علماً أن هذه الوحدات لم تخض معارك كبيرة في منطقة عفرين بحجم المعارك التي خاضتها في منبج والرقة وغيرها.

وعلى الصعيد الشعبي تسود حالة من الترقب مع التصاعد المتزايد في وتيرة التصريحات والتهديدات التركية القادمة من أرفع المسؤولين الأتراك، الأمر الذي أثر سلباً في حركة التجارة و قطاع العقارات.

في ظل هذه الأجواء المشحونة بات كثير من المراقبين يرى أن عملية عسكرية تركية أضحت في حكم شبه المؤكد بل وشيك، وخصوصاً مع كثافة التحليق الاستطلاعي الذي تنفذه طائرات تركية وتجول في سماء عفرين في بادرة غير مسبوقة طوال الأعوام الماضية والذي يفهم منه أن روسيا قد تكون راضية عن هذه الخطوة.

وكان سكريتير حزب الوحدة الديموقراطي الكردي السيد محيي الدين شيخ آلي، المقيم في عفرين، قد صرح في هذا الاطار لوكالة (ANF) قائلاً إن "التهديدات التركية إزاء عفرين الصادرة عن أعلى المستويات الرسمية بمن فيها وزير الدفاع ورئيسا الحكومة والجمهورية، تُشكل مؤشراً لا يجوز أن يستخف به أحد، وخصوصاً أن التهديدات هذه يرافقها قصف مدفعي متكرر لقرى وأرياف منطقة عفرين، وتحليق شبه يومي لطيران الاستكشاف في أجواء المنطقة، زد على ذلك اتساع وتصاعد وتيرة الحملات الإعلامية التحريضية التي تنشط لها مؤسسات ومراكز تابعة لحزبي العدالة والتنمية AKP والحركة القومية MHP في الداخل التركي، بهدف الدفع باتجاه شن هجوم واسع على عفرين".

ويؤكد شيخ آلي في مكان آخر أن أي هجوم عسكري على عفرين لن يكون نزهة، وإن وقع ستستقبل أنقرة وإسطنبول جثامين القتلى من جنودها وضباطها.

ترغب تركيا في تحقيق نصر سريع بالتعاون مع قوات (درع الفرات) في ريف حلب الشمالي والسيطرة على عفرين لتحقيق الربط الجغرافي بين مناطق سيطرة درع الفرات ومحافظة إدلب الخاضعة لجبهة النصرة بشكل أساسي، ولكن تركيا تخشى أن تتورط في مستنقع لا تحمد عقباها مع إدراكها أن المعركة لن تكون سهلة بالنظر إلى طبيعة عفرين الجبلية الوعرة ومتانة التحصينات التي اتخذتها الوحدات الكردية علاوة على إمكان تمدد القتال إلى خطوط التماس بين مدينة منبج وجرابلس. هذا الأمر إن حدث وغاصت في "المستنقع العفريني"، إن صح التعبير، قد ينعكس سلباً على الداخل التركي وبخاصة أن تركيا مقبلة على انتخابات برلمانية في شهر نيسان المقبل مما يجعل أمر الغزو البري لعفرين مستبعداً على أقل تقدير. وبسبب ذلك من المحتمل أن تلجأ تركيا إلى شن ضربات سريعة وقوية بهدف تخفيض القدرات القتالية للمقاتلين الكرد وشلها بهدف إجبارها على الخضوع لمطالب الحكومة السورية بالعودة إلى المنطقة وبدون شروط، ولا سيما أنه سبق للروس والنظام أن رفعوا العلم السوري في معسكر "كفرجنة" شرقي عفرين مما سارعت الوحدات الكردية إلى رفض رفع العلم السوري وإنزاله، ويتوقع أن ترضى أنقرة بهذا المخرج كحل وسط. إذ إن الحكومة التركية تضغط على روسيا وإيران باتجاه عودة المناطق الخاضعة لسيطرة وحدات الحماية وقوات سورية الديموقراطية، إلى سيطرة النظام السوري، وهنا يتكشف عمق التبدل الذي طرأ على الموقف التركي في سوريا إذ باتت الحكومة التركية تفضل عودة النظام الذي طالما حاربته من خلال دعم المعارضة المسلحة، ويتكشف مرة أخرى حجم العداء التركي لأي نهوض كردي في سوريا، إذ سبق أن فضلت جيرة تنظيم "داعش" الإرهابي المتوحّش على حدودها الجنوبية على هزيمته في المناطق الكردية والحدودية من القوات الكردية وحلفائها.

أمام جدية تركيا في عدم السكوت على ما يحدث على حدودها الجنوبية من توطيد لأركان إدارة ذاتية كردية أو مشروع فيدرالي جغرافي تشاركي بين العرب والكرد والسريان والتركمان تحت مسمى "إقليم شمال سوريا" قد يحدث ما لم يكن بالحسبان، وهي أن تبادر وحدات حماية الشعب YPG مع حلفائها من " قوات سوريا الديموقراطية" معركة استباقية والتوجه جنوباً نحو إدلب حيث يقضم كل من قوات النظام وتنظيم "داعش" أراضي في الجنوب والجنوب الشرقي من المحافظة.