بقدر ما تثير من غضب وأسى وخجل جريمة قتل البريطانية العاملة في سفارة بلادها في بيروت ريبيكا دايكس، بقدر ما تثير سرعة شُعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي في كشف المجرم واعتقاله، محفّزات التقدير والاحترام لهذه الشُّعبة التي رعت «سمعة» لبنان، مثلما فتحت طريق العدالة أمام أهل ضحيّة رماها سوء الطالع بين يديّ مجرم سفّاح.

خبر العثور على جثة دايكس كان تصدّر عناوين معظم الصحف البريطانية الصادرة أمس.. تبعاً لاشتماله (الخبر) على كل عدّة التشويق والجذب، وتبعاً لحساسية الرأي العام البريطاني إزاء هذا النوع من الجرائم.. ثم تبعاً للقيم التي تضع الفرد في مستوى الجماعة. وتعتبر مصيره الشخصي همّاً قوميّاً لا شكّ فيه. وتنظر إلى كرامته باعتبارها تلخيصاً ومرآة لكرامة الدولة التي ينتمي إليها وخصوصاً إذا تعلّق الأمر بحادث خطف أو قتل أو اختفاء أو إغتصاب خارج الحدود.

وبيروت في ذاتها، لا تزال عنواناً مثيراً في الميديا العالمية، والغربية خصوصاً. ولم تستطع مرحلة السلام وإعادة الإعمار إلغاء أو شطب مجمل صورتها النمطية التي شكّلتها سنوات حروب الشوارع فيها. ثمّ «استقرارها» لسنوات طويلة أيضاً عند كونها حاضنة لا مثيل لها في أي مكان آخر، لعمليات خطف الأجانب وأخذهم رهائن من قبل جماعات إيرانية الهوى ولأهداف موصولة بمصالح طهران وحساباتها. ثمّ المكان الذي شهد أكبر مذبحتَين في حق «المارينز» الأميركيين والجنود الفرنسيين منذ فيتنام والحرب الجزائرية.. ثمّ العاصمة التي شهدت أكبر عدد من الهجمات الدموية والتدميرية على السفارات الأجنبية..

بيروت هذه التي وصفها جورج شولتز وزير الخارجية الأميركي في عهد رونالد ريغان بـ«الكرنتينا».. عادت فجأة إلى صدر الصفحات الأولى في لندن، وإلى عناوين وسائل التواصل الاجتماعي ونشرات الأخبار المتلفزة، فور تأكيد هويّة الضحيّة البريطانية التي رُميت على قارعة الطريق.. وفي لعبة الميديا (وطبائع البشر) فإنّ «الخبر» الثقيل والمهم والمثير، هو المتضمّن على عناصر الشرّ والجريمة، وخصوصاً منها ثلاثيّة الاغتصاب والخنق و«جغرافيّة» الجثّة، أو كيفية التخلّص منها.. وخبر من هذا النوع كفيل بطمس (أو تشويه) مطوّلات وأطنان من الأخبار «العادية» التي لا تهمّ في الواقع سوى أصحابها والمعنيين بها مباشرة.. بما فيها الحملات الترويجية المدفوعة الثمن، للسياحة والاستثمار!

وصحيح (وواقعي) الاستنتاج القائل بأنّ بيروت لم تتعافَ تماماً من أدران الغابة التي علقت بها في سنوات الحرب.. ولا تزال في أمكنة كثيرة عنواناً للفوضى الدمويّة والفلتان الميليشيوي. أظهَرَ ذلك في فيلم سينمائي، أو وثائقي تلفزيوني، أو رواية قصصيّة، أو مقال صحافي، أو حملة انتخابية تستثير غرائز الناخبين ضد المهاجرين والأجانب وتعرض «مثال بيروت» لمدنهم، في حال تراخيهم أو استنكافهم عن «المواجهة» التي لا يجيدها أحد بمقدار المرشّح صاحب هذه المناحة طبعاً!

والسنوات الأخيرة الماضية، في كل حال، لم تُبعد بيروت عن تلك «الصورة»: جرائم الاغتيال السياسي والسيارات المتفجّرة و7 أيار بكل ظواهره و«طقوسه».. والاستعراضات الميليشيويّة لـِ«حزب الله» وحرب العام 2006 مع إسرائيل، وبقاء هذا الاحتمال وارد التكرار في أي لحظة.. ذلك كلّه أبقى، بيروت ولبنان عموماً في مربّع الدول التي تخرج منها «الأخبار المثيرة»!

ولا مبالغة على الإطلاق في الافتراض، أنّ جريمة قتل الضحيّة دايكس تأخذ في المخيال البريطاني حيّزاً جاهزاً في الأصل! وليس صعباً تخيّل الهمهمات والتعليقات التي انتشرت في بيوت البريطانيين بكل طبقاتهم، وجلّها (افتراضاً!) تحور وتدور حول سؤال واحد: ما الذي أخذها إلى «هناك» أصلاً؟!

.. سبق لـِ«شعبة المعلومات» أن حققت إنجازات فعلية لا سابق لها. أكان في سرعة الكشف عن مرتكبي الإجرام بكل صنوفه، أم في استباق الخلايا الإرهابية، أم في مسلسل كشف عملاء إسرائيل، لكن ليس لكل هذه «الأخبار» الصدى الخارجي الذي تركه الكشف عن المجرم وكل وقائع جريمته في حق الضحية البريطانية، بعد أقلّ من أربع وعشرين ساعة على حصول الجريمة!

بيروت (ولبنان) بهذا المعنى، الأمني الجنائي (لمن يشاء) أكثر أمناً واستقراراً من عواصم ودول كبرى في هذا العالم.. والحِرَفيّة والمهنيّة اللّتان تُظهرهما الأجهزة الأمنية عموماً و«شُعبة المعلومات» تحديداً ترسّخان هذه «السمعة» وتُسقطان الكثير من أدران الغابة العالقة من زمن حروب الشوارع والفلتان الميليشيوي.. شكراً لقوى الأمن و«شُعبة المعلومات» واللواء عماد عثمان. أقلّ الواجب!