مأزق الحشد الشعبي هو عنوان المرحلة القادمة في العراق بعد غلق صفحة تنظيم الدولة الإسلامية. وتمدد داعش كان السبب في تكوين الحشد الشعبي إثر فتوى جهاد الكفائي التي أطلقها المرجع الديني الأعلى في العراق علي السيستاني. في خضم الحرب على داعش لم تظهر الاختلافات والتباينات بين الميليشيات المكونة للحشد الشعبي بشكل مباشر وعدائي كما هي اليوم، ومرد هذه الاختلافات أساسا التباين في المرجعيات بين ميليشيات عراقية موالية للسيستاني وميليشيات تدين بالولاء لإيران وتحارب من أجل مشروعها في العراق، وهي التي تقف اليوم ضد أي خطوة لنزع سلاح الميليشيات وإعادة رسم تواجدها ضمن القوات الحكومية الرسمية. ويشكل تعاظم نفوذ الميليشيات، التي جاءت إيران بأغلبها، خطرا على الدولة وعلى النظام حيث لم يعد قادة الميليشيات يكتفون بدورهم العسكري الداعم للجيش النظامي بل باتت أعينهم تبحث عن النفوذ والسلطة وتخطط لخوض الانتخابات
 
مع إغلاق ملف “احتلال داعش” لأجزاء واسعة من العراق، يواجه رئيس الوزراء حيدر العبادي مهمة تبدو عسيرة في الشهور المقبلة، تتمثل في نزع سلاح الحشد الذي تحول إلى مطلب دولي، بعدما كان حديثا داخليا.
 
وتضافرت إشارات كثيرة خلال الشهرين؛ الماضي والحالي، في هذا الشأن. وبدأت الإشارات من الولايات المتحدة التي وصفت على لسان المتحدث باسم خارجيتها نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبي مهدي المهندس، بـ “الإرهابي”، قبل أن يتحرك الكونغرس لوضع ثلاثة من فصائل الحشد على لائحة المنظمات الإرهابية.
 
ولم تكن الولايات المتحدة الدولة الوحيدة التي تهتم بهذا الملف، إذ اتخذ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون موقفا صريحا منه، مطالبا بـ”حل ميليشيا الحشد الشعبي”، ودعا إلى “نزع سلاح تدريجي (على أن يشمل ذلك) خصوصا (قوات) الحشد الشعبي التي تشكلت في الأعوام الأخيرة مع تفكيك تدريجي لكل الميليشيات”.
 
وجاءت الإشارة الأهم في هذا الملف من الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في العراق، يان كوبيتش، الذي بحث مع المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني “حصر سلاح الحشد الشعبي بيد الدولة”.
 
ونقل بيان البعثة الأممية عن كوبيتش قوله إنه اتفق مع السيستاني، بعد لقاء في النجف، “حول أهمية ضمان التنفيذ الكامل لقانون هيئة الحشد الشعبي الذي يضمن حصر السلاح في أيدي الدولة وتحت سيطرتها”.
 
وذكر البيان أن كوبيتش والسيستاني اتفقا كذلك على أن “قوات الحشد الشعبي لا ينبغي أن تشارك في الانتخابات”. وبسبب حظوة السيستاني الكبيرة لدى الملايين من أتباعه في العراق، تحرص الطبقة السياسية على عدم إغضابه. ويقول مقربون من مكتب المرجع الشيعي الأعلى لـ”العرب” إن “مصير الحشد الشعبي وسلاحه، مرهون بالسيستاني”، ويضيف هؤلاء، متحدثين من النجف، حيث مقر المرجعية الدينية، أن “الحشد تشكل بسبب فتوى السيستاني، ويمكن حله بفتوى أخرى”.
 
وصيف 2014، عندما اجتاح تنظيم داعش أجزاء واسعة من العراق، شمالا وغربا، أصدر السيستاني فتوى الجهاد الكفائي سمحت لكل من يستطيع أن يحمل السلاح بالتطوع لقتال تنظيم داعش. وعلى الفور، تطوع الآلاف من الشبان الشيعة في مجموعات مسلحة، انتشرت في محيط العاصمة العراقية بغداد لحمايتها، قبل أن تبدأ الزحف رفقة الجيش العراقي نحو المحافظات التي يسيطر عليها داعش.
 
واستغلت فصائل عراقية مسلحة مرتبطة بالحرس الثوري الإيراني فتوى السيستاني لتوسيع دائرة التجنيد في صفوف الشبان الشيعة، ما سمح لها لاحقا بإرسال المئات منهم للقتال إلى جانب قوات الرئيس السوري بشار الأسد، في النزاع المحلي الذي يشهده البلد المجاور للعراق منذ مارس 2011.
 
لكن الفتوى أربكت هذه الفصائل أيضا. وفي الأيام الأولى لصدورها، تنصلت الفصائل عنها، وقالت إنها لا تتبع السيستاني دينيا، بل تقلد مرشد إيران علي الخامنئي. لكن عزوف الكثير من الشبان عنها بسبب ذلك، أجبرها على إعلان تبعيتها الدينية للسيستاني.
ويقول مراقبون إن هذه الفصائل سرعان ما ستعاود إعلان تبعيتها للخامنئي، في حال تدخل السيستاني معلنا حل الحشد، وهو ما يتوقعه مراقبون بعد إعلان العبادي “النصر النهائي” على داعش. ويواجه أي حديث عن الحشد الشعبي ومستقبله، بشكوك بشأن دوافعه.
 
 
استيعاب جزء من مقاتلي الحشد
 
وتشن “جيوش إلكترونية”، عبر فيسبوك وتويتر، هجمات إعلامية كبيرة، ضد كل من ينتقد الحشد الشعبي في الداخل والخارج، أو يطالب بحله. ووفقا لمطلعين، فإن “إيران تجند العديد من نجوم فيسبوك في العراق، للترويج للحشد، ومهاجمة خصومه”.
 
ويسود اعتقاد في الأوساط السياسية العراقية بأن “السيستاني وحده القادر على التعامل مع الحشد بأريحية”. ويقول مقربون من رجل الدين الأشهر في العراق إن “السيستاني يدعم فكرة استيعاب جزء من مقاتلي الحشد الشعبي في المؤسسات العسكرية الرسمية، وجزء آخر في المؤسسات المدنية، على أن يعود المتبقون منه إلى ممارسة حياتهم القديمة”.
 
ويتوقع هؤلاء التزام الآلاف من المتطوعين بأي موقف يعلنه السيستاني بشأن مصير الحشد الشعبي، ولكن من المستبعد أن يلتزم بذلك قادة الفصائل الموالية لإيران.
 
وكشفت مصادر مطلعة لـ”العرب” عن أن مصير قوات الحشد الشعبي والميليشيات المدعومة من إيران يُعدّ أحد أبرز التحديات السياسية التي ستواجه الحكومة العراقية وشركاءها في التحالف الدولي، خلال المرحلة المقبلة، متوقعة نشوب خلاف حاد داخل البيت الشيعي بسبب تعدد (التقليد) للمرجعيات، وبخاصة مرجعية المرشد الأعلى في إيران آية الله علي خامنئي.
 
ولا يتوقع الكاتب السياسي العراقي فاروق يوسف أن “يجازف السيستاني بإصدار فتوى تنص بشكل مباشر على إلغاء الحشد الشعبي خشية منه على هيبته الصورية التي قد تتعرض للاهتزاز إذا ما رفضت فصائل من ذلك الحشد الانصياع لفحوى تلك الفتوى، غير أن الأسوأ من حل الحشد الشعبي يمكن أن يقع إذا ما قررت إيران وهي التي تديره من خلال حرسها الثوري أن يتم دمجه بالجيش العراقي وهو ما يمكن أن يسمم العلاقة بين المؤسسة العسكرية والدولة من خلال ما يمكن اعتباره غطاء سياسيا محليا لجماعات مسلحة تتبع أوامر تصدر من دولة أخرى. سيدخل العراق يومها نفقا آخر من أنفاق متاهته. لن يكون يسيرا بالنسبة لرئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي أن يتصدى لمعضلة بذلك الحجم حتى وإن كان الرجل يحظى بدعم دولي. ذلك لأن قرارا يتعلق بمصير الحشد الشعبي لا يمكن أن يأخذ طريقه إلى حيز التنفيذ ما لم يحظ بموافقة السلطات الإيرانية أو يكون صادرا منها”.
 
ويضيف يوسف أن “الحشد الذي أضفيت عليه هالات القداسة الطائفية لم يتأسس على قاعدة الدفاع عن أراضي العراق بل عن الأماكن المقدسة للشيعة، وهي أماكن لا تخص العراقيين وحدهم والإشراف عليها بالنسبة للولي الفقيه ليس من اختصاص الحكومة العراقية. هنا بالضبط تكمن العقدة التي تهب الحشد مشروعية استمراره على المستوى الطائفي. بهذا المعنى فإن الحشد ليس فصيلا عراقيا مسلحا بل هو جيش تابع لولاية الفقيه لا تنتهي مهماته بطرد داعش من الأراضي العراقية بل تعد تلك الواقعة بداية للالتحاق بركب الجمهورية الإسلامية في إيران”.
 
 
غطاء سياسي
 
يكرر العبادي منذ شهور إعلانه الذي ينص على أن “الفصائل السياسية التي لديها جماعات مسلحة لن يسمح لها بالمشاركة في الانتخابات”، وهو ما يغضب قيادات الحشد الشعبي، التي تريد غطاء سياسيا يوفره البرلمان لسلاحها.
 
 
وعمليا فإن، معظم الفصائل المسلحة الموالية لإيران، لديها تمثيل سياسي في البرلمان أو الحكومة العراقية. ويمكن لقادة الحشد الشعبي المشاركة في الانتخابات في حال استقالتهم، بحسب القانون.
 
ويقول مراقبون إن حكومة العبادي ربما تضطر إلى خوض مواجهة محدودة مع أطراف في الحشد الشعبي، بعد رفع غطاء السيستاني عنه. ويضيف هؤلاء أن الحكومة ليست في حاجة إلى الاشتباك مع هذه الفصائل تحت عنوان الحشد، بل يمكنها تصنيفها على أنها ميليشيات أو عصابات خارجة عن القانون.
 
وتعهد العبادي بنزع سلاح عناصر الحشد الشعبي، الذي يرفضون الخضوع لسلطته. وقال إن “من غير المسموح في العراق أن تحمل أي مجموعة سواء كانت عراقية أو أجنبية، السلاح إن لم تكن مخولة بذلك”، مضيفا “إن أي جهة تحمل السلاح خارج الدستور تعد خارجة على القانون، ويجب مواجهتها”.
 
ويقول وزير داخليته قاسم الأعرجي إن مهمة الأجهزة الأمنية العراقية بعد القضاء على داعش، هي ملاحقة العصابات الخارجة عن القانون.
 
وينتمي الأعرجي نفسه إلى منظمة بدر، أحد فصائل الحشد الشعبي. لكنه منذ التحاقه بحكومة العبادي يقدم “أداء مهنيا”، على حد وصف مراقبين، ويدعم انفتاح العراق على محيطه العربي.
 
ويعرف عن الفصائل المسلحة الموالية لإيران، أنها تضم العديد من المطلوبين في جرائم جنائية، أو محكومين أو هاربين من السجون. ويقول مراقبون إن ملاحقة هذه الفئات ربما تشكل غطاء لوزارة الداخلية العراقية لتحييد العديد من الفصائل العراقية المسلحة الموالية لإيران.
 
وبعد زوال تهديد داعش، بإمكان العبادي إعادة قطعات عسكرية كبيرة من الجبهات في المناطق السنية إلى مواقعها الأساسية في محافظات الوسط والجنوب. ويحظى العبادي بتأييد قيادات عسكرية نافذة في مختلف أجهزة الدولة العسكرية. ومنح العبادي الفرصة لقادة عسكريين في القوات العراقية المسلحة من الصف الثاني، ليملأوا مشهد الحرب على داعش، وارتبطت أسماء هؤلاء بانتصارات كبيرة في صلاح الدين والأنبار والموصل، ما أدى إلى تحسن صورة الجيش العراقي، بعد الانتكاسة التي تعرض لها صيف 2014.
 
ويقول مراقبون إن هؤلاء القادة مع وحداتهم العسكرية سيدعمون إجراءات العبادي في “منع تشكل جيش مواز، من بوابة الحشد الشعبي”، لكن رغبة العبادي والمجتمع الدولي في حل الحشد الشعبي، أو نزع سلاحه، تصطدم برفض علني من شخصيات عراقية، مقربة من إيران.
 
ويقول زعيم حركة عصائب أهل الحق قيس الخزعلي إن “من يريد حل الحشد الشعبي يريدنا أن نكون مجردين من السلاح الذي دافعنا به عن كرامتنا”، مهددا بأن “جميع المحاولات لحل الحشد الشعبي سابقا فشلت وستفشل مستقبلا أيضا”.
 
وبالنسبة للخزعلي، الذي ارتبط اسمه بالعنف الطائفي، عندما كان قياديا بارزا في ميليشيا جيش المهدي، قبل انشقاقه وتشكيل مجموعته المسلحة الخاصة، فإن “الانتصار العسكري لن يكتمل دون تحقيق الانتصار السياسي”، ما يكشف عن نوايا صريحة بشأن المشاركة في الانتخابات.
 
ويخشى السنة في العراق أن يستخدم سلاح الحشد ضدهم، لكنهم يعولون على السيستاني في احتوائه.
 
ويقول وزير المالية السابق، رافع العيساوي، الذي ينحدر من مدينة الفلوجة، ذات الغالبية السنية، إن “الحاجة إلى الحشد الشعبي انتفت”. وأضاف “نخشى حدوث حرب أهلية بسبب انتشار السلاح وكثرة المقاتلين”. وطالب العيساوي، السيستاني، بإصدار فتوى لحل الحشد الشعبي، لـ”انتفاء الحاجة إليه في مرحلة ما بعد داعش”.