أعلنت مجموعة من الأقباط ظهور مدرسة جديدة في مصر متخصصة في تعليم الشباب المسيحيين التصوف، تعرف تلك المدرسة باسم "مدرسة التصوف المسيحي" ويشرف عليها اثنان من رجال التصوف المسيحي المصريين هما المنشد المسيحي الصوفي ماهر فايز، والحقوقي والباحث في الشأن الصوفي الدكتور إيهاب الخراط.

أثار هذا الإعلان الجدل إذ استغرب البعض وجود تصوف في المسيحية لأن الشائع في أذهانهم ارتباط التصوف بالإسلام.

ما هو التصوف المسيحي؟ ومتى بدأ؟ وكيف يتصوف المسيحيون؟ وما الفرق بين التصوف الإسلامي والتصوف المسيحي؟

يعرّف المنشد المسيحي ماهر فايز التصوف المسيحي بأنه أحد فروع العلوم اللاهوتية، ويقول إنه يتناول تحديداً اللاهوت الروحي، وهو باختصار كل ما يختص بحركة الإنسان الداخلية (الباطن) تجاوباً مع محبة الله وحكمته المتجسدة في المسيح، ومن الممكن أن يُعرّف التصوف المسيحي بشكل أدق بأنه الخبرة الروحية الشخصية مع الله.


التصوفان المسيحي والإسلامي

يرى فايز أن هناك ما يميّز التصوف المسيحي عن التصوف الإسلامي، ويشكّل فرقاً جوهرياً بينهما، فـ"في التصوف المسيحي يتم التواصل المباشر لله مع الإنسان، حسبما أعلن الوحي في المسيحية عن تجسد الله وظهوره كإنسان أو اتحاده بالإنسان، وهذا يخالف العقيدة الإسلامية كلها وليس الصوفية الإسلامية فحسب".

ففي المسيحية، يتم التواصل بين الإنسان والله عبر "اللوغوس/ الكلمة المتجسد" كعنصر التجلي الظاهر للباطن الإلهي المنزّه عن التواصل بذاته حسب علم اللاهوت المسيحي.

وإذا كان التواصل المباشر بين الله والإنسان هو أساس العرفان في نوعي التصوف، فإن "درب العرفان والمعرِّف فيه يختلف كطرح لاهوتي".

يقول فايز لرصيف22 إن ما يسمّيه "العبادة الحبية" والذي يتمثل بإبداعات الشعر والموسيقى في التصوف المسيحي، يشكّل في المسيحية بشكل عام "فقه العبادة الأكبر"، وهو متجذّر في طريقة العبادة عند المسيحيين الذين نرى في طقوسهم التسبيح والترنيم بالشعر واللحن بمصاحبة الحركات الطقسية، وعند الحركات الروحية الحرة يضاف الرقص، كما عند أرثوذوكس الحبشة.

أما عامة الفقه الإسلامي، يتابع، فتحرّم هذه الأمور وتستنكر قيام المتصوّفين الإسلاميين بها، ولا تسمح بإدخال الأشعار والتغني (السماع) كعنصر رئيسي في أي من الصلوات الشرعية أثناء أدائها الجماعي، كما يحدث بالكنيسة.

ولكن التصوف المسيحي يلتقي من نواحٍ أخرى بنظيره الإسلامي في الإبداع الإنساني الأدبي والفني والفكري، حيث يتحرك الإنسان ناحية المعبود حباً وتقديساً وزهداً للاغتناء به والاتكال عليه والصبر له و"التمتع بالأحوال والمقامات في ترحال معه وله وبه"، بحسب فايز.

المعالم والطقوس

للتصوف المسيحي أربعة معالم رئيسية أولها التركيز على جوهر العبادة لا على شكلها، مع توجيه القلب لله وحده؛ وثانياً مركزية شخص المسيح كطريق يأتي من الله ليحمل الإنسان إليه ولا ينطلق من الإنسان ليتحرك ناحية الله؛ ثالثاً، محورية لاهوت الخلاص إذ تبدأ منه الروحانية، ورابعاً وأخيراً، ممارسة العبادة بفرح بسبب حضور المسيح بنفسه وسط العابدين كقائد وموجه لهم.

ولا تختلف ممارسات الصوفية المسيحية كثيراً عن ممارسات الصوفية الإسلامية إذ إنها عبارة عن إبداع حبي لله وتعبير عن هذا الحب بكل الطرق والوسائل بداية من التعبير بالشعر، أو بحركات الجسد أو من خلال استخدام الموسيقى، على أن يكون هذا التعبير تحت إشراف شيخ متقدم وهو، في المسيحية، شخص له خبرات واسعة في التصوّف ويقود الصوفيين ويعلمهم الزهد في العالم، والاتكال على الله والصبر له.

وتكون الخلوات التعبدية بالصوم والمجاهدة الطوعية تقرباً لله، وجميعها ممارسات ذكرت في كتب الصوفية وتناقلتها الأجيال المسيحية عبر العصور.

أقطاب الصوفية المسيحية

ظاهرة التصوف المسيحي ليست حديثة، بل لها تاريخ طويل يعود إلى القرون الميلادية الخمسة الأولى، عندما ظهرت مجموعة من الروحانيين المسيحيين ذكرهم التاريخ المسيحي بعد ذلك على أنهم معلمو اللاهوت الروحي وهم أوريغانوس، أنطونيوس، باسيليوس الكبير، غريغوريوس النيصي، غريغوريوس الثيؤلوغوس، أمبروسيوس، وأغسطينوس.

وهؤلاء السبعة هم أصحاب أغلب نصوص العبادة اللاهوتية والشروحات الروحية، وهم أول من بدأ التصوف المسيحي من خلال القراءة الروحية والتأويل الرمزي والمجازي للنص المقدس.

وظهرت بعدهم مجموعة أخرى من القساوسة والكهنة الذين ساروا على دربهم في التصوف المسيحي وتعاليمهم، وعلى رأسهم غريغوريوس بالماس، يوحنا الصليبي، تيريز الأفيلية، وقديسي جبل آثوس باليونان، والأب المصري متى المسكين.

التراث الثقافي

في المسيحية تراث كبير من التصوف. ومن الكتب التي توضحه وتشرحه "خلاصة التصوف المسيحي" للكاتب أدولف تنكره الصادر عام 1956، و"بحث في اللاهوت الصوفي لكنيسة الشرق" لفلاديمير لوسكي، و"الرؤية الأرثوذكسية للإنسان/ الأنثروبولوجيا الصوفية" لعدنان الطرابلسي، و"مقاربات في التصوف" لتيريزا الأفيلية، و"الرياضات الروحية" للأب فاضل سيداروس اليسوعي، و"النشيد الروحي" للقديس يوحنا الصليبي الملقب بـ"أمير التصوف المسيحي" نظراً لدوره الكبير في إثراء التصوف المسيحي بكلماته ومؤلفاته.

وأيضاً هناك "المعرفة الباطنية في الأرثوذكسية الشرقية" لبوريس مورافييف، و"إنجيل يوحنا/ قراءة صوفية" لمظهر الملوحي، و"حياة الصلاة الأرثوذكسية" للأب متى المسكين وهو كتاب يجمع بين اللاهوت النسكي الرهباني والتصوف الروحاني العام، و"موسوعة التصوف" لجون فرغسون، وتذكر هذه الموسوعة كل أعلام التصوف المسيحي، وتؤرخ لأهم الحركات والكتابات فيه.

الاختفاء

ابتعد التصوف المسيحي عن دائرة الضوء فترة طويلة حتى أن بعض المسيحيين لا يعلمون بوجود تصوف في دينهم. يرى ماهر فايز أن السبب وراء ذلك هو المؤسسة الكنسية التي تسعى إلى إقصائه لكونه حركة فاضحة لسطحية التعليم الروحاني، تبرز عدم كفايته لإشباع الإنسان روحياً والتمتع بعمق العبادة.

كما أنه، بحسب فايز، شبه مقصيّ من قبل المؤسسة الغربية في الكنائس التي تتناول النص والإيمان بتغليب المنظومة الحداثية والتي تؤمن بقيادة العقل وحده لمسيرة الإيمان، بعيداً عن التصوف المسيحي وتاريخه في اللاهوت الشرقي.

وبرأي فايز، فإن "التصوف هو الجسر الإنساني الذي شيدته القلوب المحبة بين الإنسان وأخيه، قبل أن يكون بين الإنسان والله، لذا هو الجسر الآمن للتعرف على الحقائق الإيمانية لكل ديانة، دون إقصاء أو تكفير أو تحقير للآخر".

وانطلاقاً من هذه الأسباب، درس فايز التصوف وتخصص فيه منذ عام 1987 وقام بوضع منهج له في مدرسة الكاروز للعبادة الروحانية قبل افتتاح مدرسة التصوف المسيحي التي تُلقى فيها محاضرات عن الصوفية المسيحية وتاريخها وممارساتها.

الصوفية المسيحية بين الشرق والغرب

يرى الدكتور إيهاب الخراط، المحاضر الثاني في مدرسة التصوف المسيحي، أن التصوف المسيحي انطلق مع ظهور المسيحية، وأن أول متصوف في التاريخ المسيحي هو المسيح نفسه بعلاقته القوية وتجربته الخاصة جداً مع الله، والتي نقلها إلى تلامذته ثم جرى تداولها عبر الأجيال حتى وصلت إلى الصوفيين المسيحيين الآن.
ويقول إن تجربة التصوّف شهدت تطوراً بدءاً من العصور الوسطى، وراج تدوين ممارسات هذا التصوّف من خلال القديسة الألمانية هيلدغارد فون بينغن، والقديس الفرنسي بيرنارد كليرفو، ثم تطور الأمر في عصور النهضة الأوروبية وانتشر التصوف المسيحي أكثر وتم تدوين ممارساته من خلال القديس يوحنا الصليب، والقديس الروماني إغناطيوس دي لويولا.
ويتابع أنه في العصر الحديث تصدر عدد من الكتاب المسيحيين الكبار الحديث عن التصوف المسيحي لتعريف الأجيال الجديدة به، وعلى رأس هؤلاء الكاتب الإنكليزي جون ستوت الذي روى في أكثر من كتاب له حكاية التصوف المسيحي، ومن كتبه كتاب "المسيح الذي لا مثيل له".
يؤكد الخراط لرصيف 22 أن الصوفية المسيحية منقسمة إلى مدرستين غربية وشرقية، ويضيف أن الثانية منهما تتميّز عن الأولى بابتعادها عن أية بهجة دنيوية أكانت بهجة الحب أو بهجة الجنس أو المال وغيرها، كما تدعو إلى الزهد في الدنيا والتفرغ فقط لحب الله، ويأتي على رأس رواد هذه المدرسة القس المصري متى المسكين.
ويشير المحاضر الصوفي إلى أن الصوفية غير مرتبطة بالإسلام والمسيحية فقط بل هي موجودة في كل الأديان، ولكن طقوسها تختلف باختلاف الدين نفسه وتتفق جميعها في روحانياتها وعشقها لله.
الرهبنة والتصوف والتاريخ

يؤكد الباحث في التاريخ القبطي رامي كامل أن التصوف لم يظهر بشكل واضح في التاريخ المسيحي، وخاصةً تحت مسمى "التصوف" مقارنةً بظهوره القوي في الدين الإسلامي بالاسم نفسه، مشيراً إلى أن الرهبنة القبطية هي التي تجلت في المسيحية على مدار التاريخ باعتبارها أصل كل الروحانيات.
وأوضح كامل لرصيف22 أن أشهر رجال التصوف في التاريخ المسيحي أو الآباء الأوائل لتلك المدرسة هم مار آمون، ومار أنطونيوس، وأنبا بولا، ومع ذلك لم يطلقوا على أنفسهم اسم الصوفية، بل آمنوا بمبادئها مثل التجرد من الماديات و الذوبان فى الذات العليا والهروب من العالم المادي إلى العالم الروحي، ونقلوا هذه الخبرات إلى تلامذتهم مثل متى المسكين الذي أصبح شهيراً في هذا المجال دون أن يطلق على نفسه لقب صوفي.
وأشار الباحث في الشأن القبطي إلى أن الصوفية المسيحية لم تتطور كالصوفية الإسلامية إذ لم يظهر فيها التابع والمريد والمحب كما هو موجود في الصوفية الإسلامية، عدا أن أبناءها لم ينظّموا أية حركة اجتماعية أو نشاط سياسي.
ولكنه يرى أنها تتشابه مع الصوفية الإسلامية في تقديس أجساد القديسيين، وبناء كنائس بأسمائهم، وتخصيص هياكل لهم، وهو ما يفعله المتصوفون المسلمون مع أولياء الله الصالحين إذ يبنون لهم المساجد والأضرحة التي يقدسها المريدون ويتبركون بها.