ليست المرة الاولى التي يظهر لبنان وكأنه مصح عقلي، ولن تكون الاخيرة. القدس التي مست العصب اللبناني، أكثر من أي عصب آخر ، كانت السبب لذلك الفلتان في الحكي ولذلك الجريان في الحركة.. وما سبقهما من مشهد مثير  على الحدود، عندما تقدم الامين العام ل"عصائب أهل الحق" العراقية قيس الخزعلي نحو الخط الازرق الجنوبي، ليعلن الجهوزية للإلتحام بالعدو الاسرائيلي.

الجدل الذي أثارته تلك الزيارة  أخرج الجميع عن طورهم. والاسئلة التي طرحت حولها عبرت عن قدر من الخفة السياسية التي تضيع المغزى الفعلي لوجود زعيم مليشيا عراقية متورطة في الفتنة المذهبية في العراق ، ومشاركة في الحرب الاهلية السورية، على أرض لبنان الذي يلهث وراء النأي بالنفس، ولا يدركه، والذي يزعم أنه نال هدنة منذ العام 2006 ، لكنه يشعر أن ثمة من ينبذها، وثمة من يكمن لها، ولا يبالي بالدفع الى دمار لبناني جديد.

هل دخل الرجل حدود لبنان بشكل غير شرعي؟ وكأن الحصول على التأشيرة اللبنانية هي القضية . هل زار الجنوب من دون إذن رسمي؟ وكأن الحصول عليه من المؤسسات العسكرية والامنية صعب؟ لماذا تعمد الظهور بزيه العسكري؟ وكأن الرجل إعتاد على ارتداء أزياء كريستيان ديور. هل تعمد الاساءة الى الحكومة اللبنانية التي كانت تصدر  قرار النأي بالنفس المكرر والمعاد؟ وكأن الرجل ومضيفيه يأخذون ذلك القرار على محمل الجد.

لم يكن هناك من داع لتلك الاسئلة، خاصة وأن النأي بالنفس  لا يغطي الحدود اللبنانية الجنوبية، ولا يشمل الصراع مع العدو الاسرائيلي. وهذا أمرٌ  مسلمٌ به ضمناً . وهو ما يفترض أن ينقل النقاش الى مستوى آخر: الاستعداد من الآن فصاعدا لإنتشار مليشيا "عصائب أهل الحق"، التي تكاد تكمل مهماتها العراقية والسورية ، على جبهات المواجهة اللبنانية مع اسرائيل.. وما يعنيه ذلك من تعديل في قواعد اللعبة المحلية، والاقليمية طبعا.  وهو تعديل يمكن ان يجعل تجربة الكفاح المسلح الفلسطيني في لبنان في أوساط القرن الماضي مجرد نزهة مرحة!

ولعل من الملامح الاول لذلك التعديل، هو الخطاب الناري الذي ألقاه وزير الخارجية جبران باسيل، في اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة ، والذي خرق فيه سقف مبنى الجامعة العربية المتشقق من الخطابات المشابهة، عندما دعا الى مقاطعة أميركا إقتصادياً، وأعلنها بالفم الملآن: "نحن في لبنان لا نتهرب من قدرنا في المواجهة والمقاومة حتى الشهادة". هكذا بالحرف، باتت المواجهة والمقاومة قدر اً، بدلاً من أن تظل خياراً حراً ، حسب الشائع والرائج شعبياً. وصار ت الشهادة (المنشودة، للجنوبيين وللشيعة تحديداً) هي فلسفة الخطاب الرسمي اللبناني، الذي يفترض أن يبحث عن فرص تفادي الاستشهاد في المعركة، والتركيز على إحتمالات حرمان العدو من فرص النجاة من الموت في المعركة.

وربما لأنه كان هناك إحساس عام بان موازين القوى تعدلت بالفعل، خرجت التظاهرات في شوارع لبنان، على غير هدى ، لكي تنفس عن غضبها الحاد  من قرار الرئيس الاميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة إسرائيل، من دون أن يخطر في بال المتظاهرين أو المنظمين، أنه كان (ولا يزال) يمكن للبنان، أن يقدم مثالاً ، او على الاقل خياراً عربياً وإسلامياً مفيداً، إذا ما بادر  وضغط من أجل عدد من الخطوات المؤثرة : تجميد أو خفض العلاقات الدبلوماسية مع واشنطن. إستدعاء السفراء العرب من العاصمة الاميركية وإبلاغ الادارة الاميركية أنهم لن يعادوا الى مناصبهم قبل تراجع ترامب عن قراره . ورفع العلم الفلسطيني وشعار القدس عاصمة لدولة فلسطين على مباني السفارات والقنصليات العربية في أميركا..

ثمة الكثير من الخطوات المؤثرة، التي تخفف مستوى الجنون اللبناني، وتساهم تجنب القدر الاحمق الآتي من مصدرين، أو أكثر .