بدماء باردة، وخبثٍ حاد، قالها مجنون البيت الأبيض، أعلن القدس المحتلة عاصمةً لدولة اسرائيل وأخذ على عاتقه تنفيذ قرارٍ قد رُحّل على مدى السنوات الماضية، خشيةً من حمل وِزره، ضارباً بعرض حائط العبثية هوية وطن ومصير شعب، معرّياً الدول العربية من شماعتها المطاطة، لافتاً أنظار رؤسائها إلى ما يدّعون بأنها قضيتهم الأولى، ولم تكن يوماً كذلك. فراح هؤلاء ينشرون البيانات المستنكرة المُخفّفة اللهجة في هواء الإعلام، ولاقتهم ثوراتٌ لم تتخطَ العالم الافتراضي مع شعبٍ اعتاد أن تكون أعنف معايير التعبير عن غضبه "صورة بروفايل" من وحي المناسبة.

منذ نعومة أظافرنا استيقظنا على الصراع العربي – الإسرائيلي على مدينة القدس، تربينا على ثورة الحجارة في وجه المدافع. ومع السنين اكتشفنا أن هذه المدينة التي تحتل في قلوبنا محبةً "خيالية"، كانت قبلةً لصراعٍ تاريخي طويل لم ينشأ في الأمس القريب بل قوامه آلاف السنوات قبل الميلاد.

يرجع تاريخ المدينة إلى أكثر من خمسة آلاف سنة، وتعد واحدة من أقدم مدن العالم. وتواتر على حكمها قبائل ودول وملوك عدّة، وشهدت غزوات وحروب عديدة، أما أولى سكانها كانوا قبيلة اليبوسيين أحد البطون الكنعانية عام 2500 ق.م. ثم حكمها الفراعنة (16 - 14 ق.م)، والنبي داود وابنه سليمان (977 – 586 ق.م)، والملك البابلي نبوخذ نصّر الثاني (586 – 537 ق.م)، والملك الفارسي (537 - 333 ق.م)، واليونانيون، والمقدونيون، البطالمة، السلوقيون (333 – 63 ق.م)، والرومانيون والفرس (63 ق.م – 636م)، والأمويون (661 - 750م)، والعباسيون (750 - 878م)، والسلاجقة عام 1071م، والصليبيون عام 1099م.
واستطاع صلاح الدين الأيوبي استرداد القدس من الصليبيين عام 1187م، لكن الصليبيين نجحوا في السيطرة على المدينة بعد وفاة صلاح الدين، وظلت بأيدي الصليبيين 11 عاماً إلى أن استردها نهائياً الملك الصالح نجم الدين أيوب عام 1244م. ثم حكمها المماليك حتى عام 1517. 

وظلت المدينة تحت الحكم العثماني من العام 1615 حتى الحرب العالمية الأولى، ومن بعدها جاء الاحتلال البريطاني (1917 - 1948م). ومنذ ذلك الوقت دخلت المدينة في عهد جديد كان من أبرز سماته الهجرة اليهودية إليها خاصة بعد وعد بلفور عام 1917. وفي عام 1948 أعلنت بريطانيا إنهاء الانتداب في فلسطين وسحب قواتها، واستغل اليهود حالة الفراغ السياسي والعسكري وأعلنوا قيام الدولة الإسرائيلية على الطراز الصهيوني. 

وفي 3 كانون الأول 1948 أعلن ديفيد بن غوريون رئيس وزراء إسرائيل أن القدس الغربية عاصمة للدولة الإسرائيلية الوليدة، في حين خضعت القدس الشرقية للسيادة الأردنية حتى هزيمة حزيران 1967 التي أسفرت عن ضم القدس بأكملها لسلطة الاحتلال الإسرائيلي.

وللقدس أهمية دينية ثلاثية الأبعاد، كونها مدينة مقدسة لدى الديانات الثلاث "اليهودية، المسيحية، والإسلام". فبالنسبة لليهود، أصبحت المدينة أقدس المواقع بعدما فتحها النبي داود وجعل منها عاصمة مملكة إسرائيل الموحدة، كما جاء في التوراة، وينظرون لها على أنها "أرض الميعاد". 

وينظر إليها المسيحيون على أنّها المركز المسيحي الأوّل والأهمّ في العالم، وتقع فيها كنيسة القيامة التي بُنيت فوق الجلجلة، وهي مكان الصخرة التي يُعتقد أن المسيح صلب عليها. وتحتوي الكنيسة وفق معتقدات المسيحيين على المكان الذي دُفن فيه المسيح واسمه القبر المقدس. 

أما عند المسلمين، فالقدس هي ثالث أقدس المدن بعد مكة والمدينة المنورة، وهي أولى القبلتين، إذ كان المسلمون يتوجهون إليها في صلاتهم بعدما فُرضت عليهم حوالي سنة 610 للميلاد، وهي أيضًا تمثل الموقع الذي عرج منه نبي الإسلام محمد بن عبد الله إلى السماء وفقًا للمعتقد الإسلامي. 

إذاً، شكلت القدس على مرّ العصور أيقونةً ولا زالت تبهر كل من يعرّج عليها حتى خاضت الأمم الحروب الطاحنة من أجلها، وليس العجب اليوم بطمع اسرائيل بالسيطرة عليها، كيف لا وهي زهرة المدائن، ولكن العجب في الإجماع العربي على خذلان مدينة كانت منذ الأزل عربية الهوى والهوية.

فسامحينا يا زهرة المدائن... لأن عيوننا خانت الرحيل إليكي كلّ يوم، وعجزت هذه العيون المصابة بقصر النظر عن الدوران في أروقة المعابد، أسدلت جفنَيها بخذلان عن معانقة الكنائس القديمة، وما عادت قادرة على أن تمسح الحزن عن المساجد. سامحينا يا مدينة الصلاة... فقد كفر العرب بمحبتك، وعزفوا عن الصلاة فيكي ولأجلك، ونأى نهر الأردن عن غسل وجوههم المذنبة بمياهٍ قدسية. سامحينا يا بهية المساكن... فلم نستطع حتى اليوم أن نمحو آثار القدم الهمجية، سامحينا واغفري لنا وإن كنّا نعلم ماذا نفعل، فأنت أقرب إلى الله منا، وإننا في لحظة مصارحةٍ مع الذات نعترف لك بأن الغضب الساطع لم يأتِ بعد وربما لن يأتي ولعله سيبقى أسير أغنيةٍ فيروزيةٍ جميلة...!