طهران أدركت أن انهيار نفوذها اليمني نذير شؤم مرفوض لانهيارات لاحقة في فضاءاتها القريبة. وقد يحتمل الوضع الإيراني في سوريا صمتا تكتيكيا خبيثا، بيد أن أمر اليمن لا يتحمل أي مناورة
 

تتلقى إيران بصمت غريب الضربات التي توجهها إسرائيل لقواتها وقواعدها وميليشياتها في سوريا. لم تكن الغارات الأخيرة التي شُنّت على أهداف إيرانية كبرى في ذلك البلد إلا جزءا من استراتيجية واضحة بدأت إسرائيل بتنفيذها لتقويض النفوذ الإيراني في سوريا. وما من شك أن عمليات إسرائيل العسكرية، صاروخيا وجويا، تجري بالتنسيق والرعاية الكامليْن مع روسيا والولايات المتحدة.

تشنّ إسرائيل على سوريا غارات لثلاثة أيام متتالية. كانت الضربات سابقا توجه إلى أهداف تابعة لحزب الله، لكنها في منطقة الكسوة استهدفت قاعدة عسكرية كبرى بالقرب من دمشق.

قيل إن مساحة هذه المنطقة تفوق مساحة مدينة بيروت، وتحدثت معلومات عن مقتل العشرات من العسكريين الإيرانيين. استهدفت إسرائيل في ضربة ثانية مطار الضمير العسكري، واستهدفت فيه قوات من الحرس الثوري وقوات عسكرية موالية لإيران. واستهدفت ضربتها الثالثة منطقة جمرايا، وتحديدا معهد البحوث العلمية، الذي سبق لها استهدافه. وفي الضربات الثلاث، التي لن تنتهي، رسالة تعكس قرارا دوليا برفض الوجود العسكري الاستراتيجي في سوريا.

والواضح أن طهران تتأمل بقلق مسارا خبيثا يستهدف تمددها داخل العراق وسوريا ولبنان. وهي في صمتها المحسوب (إلا من تصريحات منفلتة تنقذ ماء الوجه) تتوجسُ من ذلك التواطؤ المستجد بين تل أبيب وموسكو وواشنطن وعواصم أوروبية أخرى لبسط ملف إيران على طاولة التسويات الشرق أوسطية المقبلة. تطالب فرنسا، بشخص رئيسها إيمانويل ماكرون، بحلّ ميليشيات “الحشد الشعبي” في العراق، فيما يتموضع رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي وفق قواعد تتوسّل الابتعاد عن هيمنة الميليشيات على الدولة، وبالتالي الابتعاد عن السطوة التي تمارسها طهران من خلال ميليشياتها على العراق.

وفيما تنتشر القواعد العسكرية الأميركية غير بعيدة عن تلك الروسية فوق الأراضي السورية، تتوجّس طهران أيضا من تناغم يجري بين واشنطن وموسكو للخروج سويا بالتسوية السورية العتيدة.

واشنطن تعلن أنها باقية في سوريا كما في العراق، بما يعني أن تآلف الدول الكبرى على تعايش داخل البلدين يتطلب تضييقا لهامش المناورة الإيراني هناك، وأن المخالب الإسرائيلية هي واجهة ذلك التآلف، بحيث تصل لطهران رسائل بالنار ترسم جراحيا خرائط التسويات التي ترسمها الغرف الكبرى في العالم.

تصمت إيران على صمت روسي واضح يجري دون لبس لتسهيل الهجمات الإسرائيلية في سوريا. أمر ذلك التواطؤ ليس جديدا. كان التنسيق الروسي الإسرائيلي سابقا على التدخل العسكري الروسي في سوريا في سبتمبر 2015.

بدا أن تفاهمات جرت بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو قبل أن يلتقي بوتين بنظيره الأميركي آنذاك باراك أوباما قبل ساعات من إطلاق موسكو عملياتها الجوية في سوريا. ومن المؤكد، حسب ما بات منشورا ومعروفا، أن واشنطن اشترطت لرعاية الهمة الروسية في سوريا أن تتم بالتنسيق الكامل مع إسرائيل.

تصمت إيران ضد حليفها الروسي وهي تدرك تناقض أجندات وطموحات الطرفين في العالم عامة وسوريا خاصة. لم يكن لطهران، التي قد تتحرك مع المتحركين ضد مزاج للرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن القدس، أي موقف مدين أو مستنكر حين ارتكبت موسكو محرم الإعلان في أبريل الماضي أن القدس الغربية عاصمة لإسرائيل، بما شجّع ترامب على المضي هذه الأيام بأكثر من ذلك.

صمتت طهران كثيرا وباتت تنكفئ داخل ميادين نفوذها في المنطقة، وتسعى من خلال هذا الصمت إلى تعظيم حصصها داخل ما قد تقوم التسويات الجراحية ببتره من جسمها المتمدّد في دول المنطقة.

مفارقة سريالية تظهر في ذلك الصمت الذي تتمسك به طهران حيال النيران الإسرائيلية، مقابل الضجيج الذي تحدثه بشأن نفوذها في اليمن. والأرجح أن طهران أدركت، للمفارقة أيضا، أن انهيار نفوذها اليمني البعيد نذير شؤم مرفوض لانهيارات لاحقة في فضاءاتها القريبة.

وقد يحتمل الوضع الإيراني في سوريا صمتا تكتيكيا خبيثا، بيد أن أمر اليمن لا يتحمّل أي مناورة. فإذا ما لاح خطر على سطوة جماعة الحوثيين الموالية لإيران داخل المشهد اليمني، فإن طهران دفعت باتجاه حسم حازم سريع ينهي بالدم ظاهرة انقلاب علي عبدالله صالح على حلفائه.

تعرف طهران أن جماعة الحوثيين لم تكن لتتمدد من منابعها في صعدة شمالا، وتزحف باتجاه الجنوب مرورا بالعاصمة صنعاء لولا التحالف الخبيث الذي قام بينها وبين القوات التابعة للرئيس اليمني السابق.

خاض علي عبدالله صالح ست حروب ضد تلك الجماعة حين كان رئيسا لليمن، بيد أن مكيافيلية الرجل الشهيرة نقلته من موقع العداء إلى موقع الحليف مع تلك الجماعة، بما سهل لها ما لم تكن يوما تحلم به من سيطرة كادت تكون شبه كاملة على اليمن.

أطبقت إيران على اليمن من خلال هذا التحالف الجهنّمي. لم تكن علاقات صالح بطهران علاقة ودّ، ولا تنسى له وقوفه إلى جانب الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في حربه ضد إيران في ثمانينات القرن الماضي. بيد أن “الغاية تبرر الوسيلة”، وأن هدف إيران في الإطلالة مباشرة على السعودية يستحق تحالفا ظرفيا مؤقتا مع علي عبدالله صالح، وأن انتهاء هذا الحلف حتمي حين تُحقق الغاية ويُستغنى عن الوسيلة.

أمر قتل علي عبدالله صالح كان إيرانيا بامتياز. لم يكن ارتكاب أمر كهذا ليمر دون ضوء أخضر واضح يأتي من طهران. كان على إيران أن تتحرك سريعا، وبكافة السبل التي لا تتحمل ذلك اللبس والصمت في سوريا، من أجل القضاء على انقلاب يطيح، إذا ما حظي برعاية الشرعية اليمنية وقواتها وبمواكبة من التحالف العربي، بنفوذها اليمني الاستراتيجي.

لم يكن مطلوبا فقط استعادة زمام المبادرة ميدانيا من قبل ميليشيات الحوثيين، بل كان مطلوبا قتل علي عبدالله صالح وتصفية قيادات حزب المؤتمر الشعبي العام وترهيب القوة الكامنة التي قد تشكل خطرا على تلك الميليشيات ونفوذها.

لم تنته المعركة في اليمن كما لم تنته في سوريا والعراق. تعرف طهران ذلك تماما، لكنها في اليمن مازالت تمتلك هامشا أكبر يتيح لها الإطلالة على العالم من موقع المُهدِّد لأمن الخليج، خصوصا أمن السعودية، كما أمن الممرات المائية الدولية.

قد لا تهم إيران تفاصيل الميادين داخل صنعاء وطوْقها، بقدر تأكدها من إمكانية قذفها بصواريخ باليستية صوب السعودية. فعلت ذلك مرات عديدة وهي لن تتوقف عن التلويح بذلك متوسّلة موقعا متقدما لها يجبر الرياض والعالم على القبول بها شريكا كبيرا في سوريا والعراق في اليمن.

تصمت طهران حيال الجراحات الإسرائيلية التي تستهدفها في سوريا. بالمقابل يتحدث قائد الحرس الثوري اللواء محمد علي جعفري عن انقلاب تم إحباطه في اليمن ويغادر الرئيس حسن روحاني “اعتداله” ليبشّر بانتصار ضد “المعتدين” على اليمن. في هذا الوقت تتراكم التقارير عن سقوط العشرات من القتلى الإيرانيين، وليس اليمنيين، داخل مواقع وقواعد إيرانية ضربتها نيران إسرائيلية في سوريا.

لا أحد في طهران وعدنا بردّ ضد “المعتدين”.