رغم مرور شهر كامل اليوم على الاستقالة المدوّية للرئيس سعد الحريري، ما زال أهل الحكم غارقين في البحث عن «الصيغة المناسبة» لسياسة النأي بالنفس عن صراعات المنطقة، فيما عواصم القرار العربي والدولي في حالة استنفار ديبلوماسي، لحماية مظلة الأمن والاستقرار التي تحيط الوضع اللبناني، وتحصّنه من النيران المشتعلة في الإقليم.
من المحزن فعلاً لكل لبناني، أن يشعر بأن مسؤولين عرباً وأجانب يبدون حرصاً على تماسك استقرار وطن الأرز، فيما المسؤولون اللبنانيون على عاداتهم في مناورات شدّ الحبال، وعمليات الكرّ والفرّ، والتشاطر الدائم، حول مسألة وطنية حسّاسة وبالغة التعقيد، وكادت تطيح بما تبقى من مقومات الصمود لبلد محاصر بسلسلة من المشاكل الداخلية، يزيد تفاقمها سرطان الفساد الذي ينهش بجسم الدولة ومصداقيتها وخزينتها، فضلاً عن هذا الكمّ من الضغوطات السياسية والاقتصادية، من كل حدب وصوب!
الواقع أن الالتزام بسياسة النأي بالنفس، قولاً وفعلاً، ليس مسؤولية الرئيس الحريري وحده، بقدر ما هي مسؤولية كل الشركاء في السلطة وفي الوطن، بعيداً عن أساليب المزايدات، أو التمسك بالسياسات الفئوية والحزبية، لأن المسألة تمس فلسفة الكيان اللبناني، الذي قام على مبادئ الانتماء إلى المجموعة العربية، مع الاحتفاظ بخصوصية تركيبته الاجتماعية والسياسية، والحفاظ على سياسة الابتعاد عن المحاور والصراعات المحتدمة في المنطقة.
وتجارب الماضي، البعيد والقريب، علمتنا أن الوضع اللبناني سريع العطب، وقابل للاهتزاز، في كل مرّة تخرج فيها السلطة اللبنانية عن خط الحياد بين المحاور الإقليمية، وترجيح كفة محور على آخر.
والأزمة التي يتخبّط فيها لبنان منذ مطلع الشهر الماضي، لا تعني رئيس الحكومة وحده، بل إن تداعياتها تُهدّد المصالح اللبنانية الكبيرة في الصميم، لأن أسباب الأزمة وجذورها على تماس مباشر مع أمن ومصالح الأشقاء في الدول الخليجية، وخاصة المملكة العربية السعودية، وبالتالي فإن المعالجة يجب أن تركز على حماية المصالح الوطنية للبنانيين، والمرتبطة بشكل وثيق مع مصالح الدول الخليجية.
ماذا تنفع التسويات السياسية التقليدية بين أهل الحكم، إذا الصيغة المطروحة لم تحظ بقبول الأشقاء في السعودية، مثلاً؟
ولا نبالغ إذا قلنا أن لبنان أمام اختبار جدّي لإثبات قدرته على صياغة «المعادلة الصعبة»، التي تحقق توازن الحد الأدنى، على الأقل بين خصوصيات الوضع اللبناني وما تقتضيه المصالح المشتركة مع السعودية من ابتعاد «حزب الله» عن حرب اليمن، وبقية المواجهات المشتعلة في المنطقة.
وإنجاز صياغة «المعادلة الصعبة» لا يتطلب حصول معجزة ما، بل يكفي عودة التوازن إلى تركيبة السلطة اللبنانية، وإنهاء الخلل الذي ساد في الأشهر الأخيرة، حتى يتمكن كل طرف من القيام بدوره الوطني المنشود، بعيداً عن أساليب التفرّد والهيمنة من الأطراف الأخرى.
المظلة الدولية لحماية الاستقرار اللبناني من الأهمية بمكان، ولكن يبقى الأهم تخلي أهل الحكم عن السياسات الفئوية والحزبية الضيّقة، وإعطاء الأولوية المطلقة لمصالح البلد العليا، بعيداً عن روائح الفساد وأساليب الزبائنية المقيتة!